ورقة عمل
مقدمة إلى “ملتقى القضاء والإعلام”
24- 25/03/1432هـ الموافق 27-28/02/2011م
الرياض
بقلم: د. فهد العرابي الحارثي
** تنص جميع الدساتير على ضرورة الفصل بين السلطات: التنفيذية والتشريعية والقضائية، وذلك منعاً لتداخل الصلاحيات، وتقاطع الاختصاصات، وتضارب المسؤوليات أو ميوعتها وتسيبها وضياعها، وبالتالي يكون السقوط في معضلة عدم انتظام التطور المأمول.
إن الفصل بين السلطات الثلاث يأتي كذلك رفعاً لكفاءة الأداء في مؤسسات الدولة، وحماية لمشروع التنمية المستدامة من الانحراف أو الفساد أو التجاوزات..
كما أنه يأتي ضماناً للعدالة، وحفاظاً على الحقوق، مـا يكفل للمواطنين الاستقرار والرقي، والـرفاه الذي ينشدونه.
إن نموذج الـنظام الـسياسي والدستوري الـذي يفصـل بيــن السلطات هو النظام المستقر المنتج الذي يحترم مواطنيه، ويكفل للجميع مستقبلاً مشرقاً، هادئاً، مشتركاً.
** إن من غير المقبول أن تكون السلطة التنفيذية هي السلطة المشرعة، أي التي تسن القوانين، أو تنشئ الأنظمة. كما أنه من غير المقبول أن تكون هي التي تقوّم المنجزات، أو تستجوب القائمين عليها. فشأن التنفيذيين أن يعتمدوا الخطط، وأن يقترحوا الميزانية، وشغل المشرعين أن يناقشوا وأن يتابعوا وأن يحاسبوا وأن يصدروا التشريعات.
وإن من غير المقبول أيضاً أن يكون للسلطة التنفيذية أو السلطة التشريعية أي تأثير، من أي نوع، على السلطة القضائية، أو على ما تقرر أو تصدر من أحكام.. وهذا ما يعرف باستقلال القضاء (الاستقلال التام) هذا الاستقلال الذي يدحض تماماً أي مؤثرات من قبل السلطتين التنفيذية والتشريعية، بما في ذلك المؤثرات غير المباشرة: سياسية أو مالية أو غيرها. وإذا كان من المسموح به أن يكون هناك بعض التداخل، أحياناً، بين مناطق السلطتين التنفيذية والتشريعية فإن ذلك غير مرحب به مع السلطة القضائية، لا بل إنه قد يوهن صدقية القضاء وقد يخدش نزاهته.
** ويؤكد كثير من المعنيين بشؤون التنمية والإدارة بأن القضاء هو الجهاز الأكثر حساسية وهو الأكثر قابلية للخدش، من أي جهاز آخر في الدولة.. كما يؤكدون بأن في صلاح مؤسسة القضاء وسلامتها الصلاح والسلامة للمجتمع كله، والصلاح والسلامة للدولة في مختلف قطاعاتها، فإذا فسدت مؤسسة القضاء فسد كل شيء.
** القضاء، إذن، هو “فصل الخطاب” في الطموح التنموي، وفي صيانته والمحافظة على نقائه.
والقضاء هو “صاحب الكلمة العليا” في كل ما يطرأ من مشكلات أو خلافات، أو انحرافات أو أخطاء، فالقضاء هو سيادة القانون.. والقانون فوق الجميع.. أي أن أمام الشرع يجثو الكبير والصغير.. وينحني الأمير والوزير والغفير.. الكلمة هي كلمته، لا ينازعه فيها أي أحد.. لأنه موئل الحق، ولأنه مصدر العدل، وماذا يروم الناس، من الأسوياء والشرفاء، غير الحق والعدل.
تلكم هي محددات استقلال القضاء، وأبعاد سلطته، وملامح شرفه.
** بعد أن تطور دور الإعلام في العالم، وبعد أن علا صوته، وسطعت أهدافه، صدرت المواثيق والبيانات والقوانين التي رفعته إلى مستوى “السلطة الرابعة” بالإضافة إلى السلطات الثلاث الأخرى، فأصبح الناس، والدساتير كذلك، يتحدثون عن سلطات أربع، وليس ثلاث فقط.
جميع الدساتير في الدول المتحضرة التي تحترم أجيالها ومستقبلها تلح على احترام “استقلال” الإعلام و”حريته”، فتمنع بالمرة التأثير عليه، أو تعطيله، أو عرقلته عن بلوغ أهدافه، أو منعه من أداء مهماته، ولعل أبرز هذه المهمات في عبارة مختصرة، “مراقبة” أداء السلطات في الدولة ومؤسساتها.. جميعها.. بما في ذلك القضاء نفسه. وهنا تلوح، مع بعض التحفظ كما سنرى بعد قليل، منطقة”الانسجام” أحياناً بين القضاء والإعلام.. فالإعلام يقوم بدور “المراقبة” وفضح الأخطاء والتجاوزات.. والقضاء، من جهته، يتولى الحسم، والفصل، وإظهار الحق والحقيقة.
إننا هنا أمام مستوى واضح من مستويات الانسجام في الأهداف، أو هو التكامل في الوسائل والغايات من أجل مجتمع راقٍ ومستقر يتحقق فيه العدل. ولكن هنا أيضاً ، أي في الوقت ذاته، تكون منطقة “الاحتكاك”، والمماحكة، والمجاكرة، واستعراض القوة أحياناً أو ربما التصادم، بين القضاء والإعلام، وهو ما عنيناه أعلاه بالانسجام المتحفظ، فعلى الرغم من فرص التكامل الممكنة التي ألمحنا إليها بين الإعلام والقضاء (البحث عن الحقيقة وإشهارها والفصل فيها) فهناك خلاف واضح بين المؤسستين في مقاربة القضايا المنظورة، والمشكلات المطروحة، والتعامل معها. فالقضاء ينظر إلى مقاربات الإعلام ومعالجاته على أنها أقل صرامة، وأقل انضباطاً، من مقارباته ومعالجاته هو، فحدود “الإعلامي” هي نظرته الفردية المجردة، أي النظرة ذات الثقافة الحقوقية والقانونية الملتبسة غالباً، أو هي القشرية في أحسن الأحوال، فهي تفتقر إلى العمق المعرفي والخبرة، ما لا يكفل سلامة النتائج وصحتها. بينما تكون حدود “القاضي” هي، بالإضافة إلى الخبرة، الأحكام والمدونات المنضبطة بالشرع، وهي قبل ذلك إجراءات دقيقة، ودائماً محايدة، لا تقبل الاجتهاد الفردي، ولا تخضع للهوى، أو العاطفة، أو العمل بظاهر الأشياء، فإذا زاد الأمر، من طرف الإعلام، فأسهم، بلا روية أو إدراك للاستحقاقات الشرعية، في تحشيد الرأي العام وتأليبه ضد أو مع قضية من القضايا، كان الفراق والتناقض التام في المواقف. وهذه مشكلة من أهم المشكلات التي تسهم في قطع سبل التفاهم بين القضاء والإعلام، أي عندما يشعر القضاء بأن الإعلام قد مضى إلى نقطة أبعد مما ينبغي في معالجاته، فأخذ، بتدخلاته “غير المنضبطة”، يفسد عليه مهماته ومسؤولياته، وقد تدفع التدخلات إلى تحويل الإعلام إلى شحنة هائلة من الضغوط، بعد أن كان هو السند ورفيق السلاح، أو رفيق الطريق!
** الإعلام مسكون دائماً بالحماسة للاضطلاع بمهماته في المجتمع، ومن أبزر تلك المهمات الكشف عن الأخطاء والتجاوزات، وفضح بؤر الفساد. والقضاء، بالتوازي، يستشعر مسؤوليته الكاملة في تحري الحق والعدل تجاه القضايا المطروحة والمشكلات الماثلة. وكل منهما له أدواته ووسائله ومرجعياته.. والمطلوب هو احترام حدود المساحات المتاحة للحراك، أو بعبارة أخرى فإن المطلوب هو مراعاة الخطوط الحمراء التي ينبغي عدم تجاوزها أو القفز عليها. وخطوط القضاء الحمراء هي عدم التدخل في اختصاصاته، وعدم خدش مصداقيته، أو التأليب عليه.
الإعلام لا يقبل من القضاء تقاعسه، إذا حصل، وهو يتابعه ويراقبه ويوجه إليه لومه وملاحظاته كلما وجدت، كما أن القضاء يرفض أن يشهر الإعلام أسلحته في وجهه أو يتدخل في اختصاصاته، أو ينصب نفسه لموقع ليس له، فهو لم يخلق من أجله، فالكشف عن “الحقائق” شيء (الإعلام)، والفصل أو الحكم فيها شيء آخر (القضاء). وبالقدر الذي يتضايق فيه الإعلام من “تقاعس” محتمل للقضاء فإن القضاء لا يقبل أن يشعر أنه واقع تحت ضغوط الإعلام.. أو هو يرسف في أغلال تلك الضغوط مهما كانت دوافعها.
وبعد صدور الأحكام قد تقوم وسائل الإعلام بتعبئة الرأي العام، سلباً، وذلك بالتشكيك في الأحكام، أو في سلامة الإجراءات، أو حتى أحياناً في نزاهة القاضي وحياديته، ما قد يدفع بالناس إلى عدم الاطمئنان إلى القضاء برمته، والنظر إليه بغير منظار العدل، فيسهم ذلك في زعزعة هيبة القضاء من جهة، وهذا غير مطلوب أو مرغوب، ومن الجهة الأخرى فإن ما يمس هيبة القضاء يمس، في واقع الأمر، الثقة في اقتصاد البلاد وعدل الدولة.. وهذه أمور لها انعكاساتها القوية على التنمية في مختلف تجلياتها. وهكذا نعود مرة أخرى إلى مسألة أثر صلاح القضاء وقوته على مشروع التنمية في البلاد.. المشروع بكامله!
** من جهة أخرى، القضاء هو الضامن الحقيقي لحرية الإعلام تجاه مجمل التحديات، سواء كان مصدر هذه التحديات الأفراد أو السلطات والمؤسسات المؤثرة الأخرى؛ فالقضاء يحمي حرية الإعلام، وحرية الصحافة، لتمكينها من أداء واجبها، وهذه “نقطة” أخرى من نقاط التفاهم والانسجام والتكامل بين القضاء والإعلام، فلا أحد يستطيع أن يمس الإعلام أو حريته مادام القضاء قوياً ومتماسكاً ومستقلاً، لأن هاجس القضاء هو العدل، والعدل يقتضي أن يعبر الإعلام عن آرائه بحرية. وفي المقابل فإن المدافع الأول عن القضاء، وعن استقلاله، هو الإعلام، فالإعلام هو سند القضاء، وهو عضده، والاثنان (القضاء والإعلام)، يلتقيان هكذا حول نقطة “الحق والعدل” فهي الهدف وهي المقصد. إن مجتمعاً يتفق إعلامه وقضاؤه على هذه الأسس أو المبادئ في علاقتهما، أو في منهجهما في إنجاز المهمات المنوطة بكل منهما لهو مجتمع مزدهر، سليم، ولا يمكن أن يخشى أي شيء على مستقبله.
** إن القضاء والإعلام، على هذا النحو من المعالجة، أو هذا النحو من التجاذبات، هما الصديقان اللدودان إن صح التعبير.. وإضافة إلى ما ذكر أعلاه يقوم الإعلام بمهمات جليلة للقضاء فهو ملتزم بالوقوف في صف الدفاع عن العدالة وإحقاقها، ولكن إلى أي حد يمكن قبول أن يعمد الإعلام إلى إظهار القضاء في بعض الأحيان على أنه غير مكتمل الأدوات، وهو ناقص التأهيل، فهو غير مستوف لشروط التحاكم، أو غير مدرك للمستجدات في حياة الناس، وتشابك مصالحهم وتداخلها مع الجديد والطارئ، ولاسيما في علاقاتهم مع الخارج؟! هنا، مرة أخرى، بعض مواطن الخلاف بين إعلام منفتح، سريع، مقبل على المبادرة متلهف لها، تتسع وتتشعب فضاءاته كل يوم، وقضاء يكاد أن يكون عالمه منغلقاً على نفسه، وهو مرتبط بضوابط من صفاتها الجمود، أو على الأقل البطء في الاستجابة للجديد والتكيف معه.
** من مصلحة الناس والدولة المحافظة على استقلال القضاء كما أن من مصلحتهم كذلك المحافظة على حرية الإعلام.. وينبغي أن تلتقي هذه “الأضلاع” الثلاثة (الدولة والقضاء والإعلام) حول هذه المسائل، ولابد من وجود التشريعات التي تضمن، بكفاءة عالية، استتباب هذه الأمور، بحيث تكفل عدم التعارض، وتضمن عدم التقاطع أو التناقض. فالتعاون والتكامل بين القضاء والإعلام ضرورة ملحة وأساسية لقيام العدل وانتظامه، وذلك لما فيه مصلحة الدولة والناس، وإن إزالة مناطق الاحتكاك أو المماحكة أو التصادم هي الخيار الوحيد لمثالية العلاقة، ولا خيار آخر غيرها.. وهذا إنما يتم بترسيم الحدود، أي تحديد المسؤوليات وضبطها، وإنهاء المناطق الملتبسة أو الرمادية. فالتشريعات السليمة، والقوانين الواضحة كفيلة بخلق بيئة أكثر خصوبة للتفاهم والتعاون.
** وعندما توضع مثل هذه التشريعات ينبغي الاتفاق على المبادئ والأخلاقيات والقيم التي تحكمها، وكما أن للقضاء مجالاته، ومسؤولياته، واختصاصاته، ومحدداته الشرعية في التعامل مع القضايا ومعالجتها والحكم فيها، فإن للإعلام تجلياته في الحرية، وفي صناعة الرأي، وفي الاستحواذ على الجماهير.. ولكن ينبغي أن يكون للإعلام، في الوقت نفسه، موجباته التي ينبغي ألاّ تجعله يسرف في حريته، أو يخون أمانته في صناعة الرأي، أو يكذب ويخادع في الاستحواذ على الجماهير. فالحرية ليست حرية مطلقة، بل هي حرية مسؤولة، يحددها النظام والقانون، ولا يمكن لأي إعلامي، أو مؤسسة إعلامية، أن تتجاوز النظام والقانون. وإن على القضاء، من جهته، ألاّ يسرف أو يستغل ثقافة “المقدس” فيشهرها في وجه الإعلاميين ما يؤدي إلى تعطيل دورهم أو عرقلته.
** ولتلافي أو تحاشي فرص التناقض أو التقاطع بين مؤسسة القضاء والإعلام نزيد على ما ذكرنا أعلاه ما يأتي:
1) أهمية أن يحيط الإعلامي، الذي يتصدى لحقل القضاء ومجالاته، بالقوانين الشرعية والنظامية، ما يكمل أدواته المهنية، وما يجعله أكثر وعياً وإدراكاً بما يمكن أن تسببه تدخلاته غير المحسوبة أحياناً، وغير المنضبطة أحياناً أخرى، من مضاعفات ومشكلات. إن في ذلك ما يمكن الإعلامي من القيام بدوره بشكل مهني ومحايد، دون أي تأثير أو ضغوط على القضاء. وقد دعا بعض المهتمين إلى إقامة أكاديمية للإعلاميين هدفها تأهيلهم لمهماتهم في التعامل مع القضاء، بما يساعدهم على أداء واجبهم، ما يقتضي محاصرة الأضرار المحتملة.
2) ينادي بعض المختصين بأهمية وجود مستشار قانوني في كل مؤسسة أو منشأة إعلامية، يتولى النظر في قضايا النشر مما يتصل بالأعمال والأمور القضائية قبل نشرها، تجنباً لإثارة البلبلة أو حتى حماية للإعلاميين من التعرض للمساءلات القانونية والشرعية.
3) يرى آخرون ضرورة وجود لجنة من القضاة والإعلاميين تكون مهمتها وضع مدونة للمعايير المهنية والقانونية لمعالجات الإعلام للأمور القضائية.. وقد يكون من مهمة هذه اللجنة وضع أدلة إرشادية لتغطية المناسبات القضائية.
4) لابد من عقد “ورش عمل” ودورات قانونية وشرعية للإعلاميين المتعاملين مع القضاء؛ وذلك بهدف الوصول إلى تنمية حقيقية لفرص التعاون المهني الصحيح، ولرفع مستوى الثقافة القانونية والشرعية لدى الإعلاميين، وتضم هذه الورش رؤساء تحرير الصحف والعاملين في القنوات الفضائية، بالإضافة إلى مجموعة من القضاة والمختصين لتحديد المساحات المتاحة للنشر.
5) إن من المهم كذلك إقامة دورات للقضاة أنفسهم للتركيز على العلاقة مع الإعلام، وتنمية مستويات التفاهم، وفتح آفاق أرحب للتعاون، من أجل هدف نبيل واحد.
هكذا يمكن أن نتحدث عن قيام إعلام عدلي متخصص.