
تمهيد:
موضوع هذه الورقة مستمد من عنوان الجلسة الأولى ومحورها الرئيس: حول “الثقافة والاقتصاد .. التكامل لا الاختلاف” ولهذا سأعرض في الورقة أفكاراً وصوراً من العلاقة التبادلية التفاعلية بين الثقافة والاقتصاد. فما من شك أن الاقتصاد هو دائماً عصب التنمية وعمودها الرئيس، وفي المقابل فإن من الصعب، ولاسيما اليوم وأكثر من أي يوم، الحديث عن الثقافة بعيداً عن مشروع التنمية، وبالتالي بمعزل عن الاقتصاد. فقدر الثقافة الجميل هو خدمة التنمية، ولكي يكون للثقافة معنى، حريٌ بها أن تقود رقيّ الإنسان، ونتيجة لتقاطع تلك العلاقة يكون لقاء الثقافة بالاقتصاد، أو العكس، لقاءً “تكاملياً” بالفعل، وقلما تنشأ بين الطرفين بؤر للاختلاف أو الخلاف.
لا يمكن للثقافة، في مفهوماتها الجديدة، أن تزدهر، وتحقق طموحاتها وتطلعاتها، وتواكب عصرها، وتواجه تحدياته، وتنخرط في غواياته، في ظل وجود اقتصاد ضعيف أو مشلول. ومن الصعب أن نتخيل أن الاقتصاد من جهته، أو التنمية بشكل عام، يمكن أن تدير ظهرها لـ “صناعات” ثقافية مهمة، ومدرّة للأموال، داعمة للاقتصاد، مسهمة في خلق وظائف جديدة، وفرص لحل مشكلات البطالة مثل: السياحة بمحتواها الثقافي المتنوع، أو مثل السينما، أو الترفيه، أو مجالات البحوث والتطوير بشكل عام، وهي التي خلقت آفاقاً جديدة، شيقة وثرية، أضحت تحلق فيها الثقافة بكل ما أوتيت من رحابة. ولاسيما على المستوى التقني الذي أفعمنا بما نسميه اليوم “ديمقراطية المعرفة”، فهو سهّل انتاج الثقافة، وهو يسّر تداولها، وهو زاد في إخصابها ونموها المطّرد وثرائها. وهو خلق من الأدوات والوسائل والمنصات ما جعل صوت الثقافة عالياً دائماً.
الثقافة والاقتصاد .. الثقافة من أجل التنمية
فلنبدأ إذن بالسياحة والسينما بصفتهما من مولدات الثقافة، وهما محسوبتان عليها من حيث أدوارهما المعززة لمنتجات تأخذ المنحى السلعي، أو الخدمي، أي تصبح منتجاتهما منتجات سلعية أو خدمية داعمة للاقتصاد والتنمية.
السياحة والسينما بهذا المعنى هما عبارة عن “مصانع” منتجة للثقافة، وهي مستهلكة لها بصفتها مادتها الخام في الوقت ذاته. السياحة والسينما يمثلان، أحياناً، شكلاً من أشكال إعادة تصنيع الثقافة، في المفهوم، وكذلك في المحتوى والمقومات والأدوات والمعالجة، فهما هكذا تتحولان إلى منتجات تدر الأموال، وتخلق الوظائف، وتعزز الاقتصاد، فتؤثران بالتالي في عجلة التنمية، وتسهمان بطريقتهما في حل مشكلات البطالة. وهما مصدران يتعاظم دورهما من يوم لآخر، بل إنهما جاذبتان بطبيعتهما للابتكار الذي يقود دائماً إلى التطوير، والإتقان، والجودة العالية، وخفض التكاليف.
ولو أخذنا، مثلاً وأولاً، موضوع السياحة فلها، محلياً ودولياً، منتجاتها، ولها وسائلها في العرض والتسويق والتشويق، ولها منظوماتها من الدراسات والقواعد والإجراءات والتشريعات التي تكفل لها الأداء المستقل الجيد، وتضمن للمستهلك أو المستفيد الحصول على ما يقابل ما ينفق من الأموال. ويمكن أن نتكلم براحة تامة عما نسميه “عولمة” البيئة الإجرائية للسياحة، وبالتالي نشوء حشد معرفي وتقني هائل يساعد في التعريف بالمقومات السياحية في المناطق الجاذبة والمنخرطة في تنافسية الصناعة في أرجاء الكرة الأرضية، واستدعى ذلك ميلاد ورواج تطبيقات تقنية سهلت الترويج للصناعة، ويسرت الخدمات للمستهلكين، ما عزز مزيداً من الإقبال على السياحة، وما دفع إلى اكتشاف صيغ مهمة لحوار الحضارات، وسجال الثقافات وقد أضحت هذه الصيغة تؤدي اليوم دوراً مهماً في المشروع الإنساني الأهم الذي تلخصه هذه العبارة: “مختلفون بلا خلافات”، وإذا استطاع المعنيون بالسياحة تأكيد هذه “الحمولة” الإنسانية المهمة لصناعتهم فهم سيقومون بالدور الأهم في ترسيخ مشروع “سلام العالم”.
السياحة من الجهة الأخرى “صناعة” على قدر كبير من الأهمية والتأثير، من الناحية الاقتصادية. فهي في فرنسا أو إسبانيا تمثل المصدر الأهم في الدخل القومي للبلاد. ومن الطبيعي أن يكون من أبرز المنتجات التي تقدمها صناعة السياحة: الثقافة نفسها في مفهومها الشامل. والمقصود بالثقافة هنا ما يتوافر عليه المجتمع من قيم، وخصوصيات في التفكير والسلوك. والمقصود بالثقافة أيضاً تراث ذلك المجتمع في الفنون والتاريخ والآثار والفلكلور. وقرأت مؤخراً أن الصين على سبيل المثال تتجه وبقوة إلى ترويج نفسها كجهة ثقافية وسياحية بامتياز. فخلال سنة 2018م، تسعى الصين لأن تكون الدولة صاحبة العدد الأكبر في المواقع الأثرية والتراثية المسجلة في منظمة اليونسكو والصين تسجل فعلياً أعداداً كبيرة من المواقع الأثرية والتراثية، فقد لا تتفوق عليها سوى إيطاليا، ومن المنتظر أن تتجاوزها الصين. التي أدركت أهمية القوة الناعمة المستمدة عبر التاريخ من الحضارة والثقافة، فضلاً عن العوائد الاقتصادية الكبيرة التي من شأنها أن تدعم التنمية في البلاد. وهذا ما عرفته دول مثل فرنسا وبريطانيا واليونان والهند وتركيا، يلاحظ المهتمون أن هذه الدول تمكنت من تحقيق مواقع على خريطة العالم الإنسانية بأقل التكاليف وبعوائد كبرى انعكست على صورتها الذهنية، وعلى اقتصاداتها المحلية.
ونظراً لأهمية السياحة، ثقافياً واقتصادياً، فقد كانت تنميتها ودفعها لتكون مصدراً من المصادر المهمة للدخل هدفاً واضحاً وبيناً لرؤية المملكة العربية السعودية 2030. والمعلوم أن السعودية تنعم، منذ القديم، بنوع متفرد من أنواع السياحة لا يضاهيها فيه أحد، وهو السياحة الدينية (الحج والعمرة) وإدراكاً لهذه الميزة الحيوية فالرؤية تعمل على أن يبلغ عدد الحجاج في العام 2030م ستة ملايين حاجاً، وأن يصل عدد المعتمرين إلى ثلاثين مليون معتمر في السنة. وهذا يتطلب، راهناً ولاحقاً، بطبيعة الحال، أن تعمل المملكة على تحسين الأداء، وتطوير الخدمات المطلوبة لهذه الأعداد، وقبل ذلك وبعده أن تعمل على دعم كفاءة الاستيعاب، مما يعني حراكاً تنموياً ينبغي أن يتسم بالنجاعة والكفاءة، أي ما يفرض الإعداد لمشروعات كبرى في النقل، والضيافة، والصحة، والتسوق وغير ذلك من الخدمات.
والمملكة ضمن الرؤية 2030 نفسها التفتت كذلك إلى مناطق الجذب السياحي الأخرى مثل مناطق الآثار، وهي كثيرة ومنتشرة في أرجاء البلاد، فأولتها اهتماماً بالغاً تخطيطاً وتشريعاً، وقبل ذلك كله إحياءً. ونقول إحياءً لأنه مرت سنوات طويلة وجانب الآثار، (القديمة والإسلامية) في السعودية يعاني من ضغوط متشددة من حيث النظرة الشرعية التقليدية إليه، وإلى كل من يراوده الحماس للاقتراب منه من أجل دفعه إلى مناطق الضوء. بل إن الإهمال والغلو في النظر إلى الآثار أدى، فيما مضى، إلى اندثار واختفاء ثروات ثقافية هائلة في هذا الجانب.
ونتيجةً للرؤية الاستراتيجية الجديدة حول مستقبل “صناعة” السياحة، فإن السعودية تعمل حالياً على تحديث منظومة التشريعات والإجراءات المتعلقة بالآثار وبالسياحة، بما يكفل لها الازدهار المطلوب المنتظر، ومن ذلك تيسير وتسهيل الحصول على تأشيرات السياحة للراغبين في زيارة المملكة، وهي كانت، سابقاً، محصورة في السياحة الدينية وبأعداد محدودة أيضاً. وتعمل الجهات المختصة بالفعل على تحرير تأشيرات الزيارة والسياحة من التعقيدات التي تكبلها وتقيّد من حركتها.
فضلاً عما تقدم؛ المملكة تتوافر على ثراء وتنوع ثقافي ملفت قلما يوجد في بلدان أخرى: في العمارة والفلكلور والأزياء والحُلي والمأكولات والرقصات والفنون بشكل عام. ولقد كان هذا التنوع موضوعاً لعدد من الدراسات التي اشتغل عليها باحثون شغوفون، وإن كانت مازالت هناك كنوز كثيرة في التراث الثقافي السعودي لم تكتشف بعد، وهي تحتاج إلى جهود كبيرة لدراستها وتوثيقها والتعريف بها، واستثمارها ثقافياً وسياحياً.
الترفيه يتداخل غالباً مع السياحة في كثير من مجالاتها، وكذلك الثقافة، ولا سيما في جانب الفنون على مختلف صيغها، فضلاً عما تتوافر عليه الطبيعة ذاتها من فرص ترفيهية في البر والبحر، وفي المرتفعات والجبال والسهول والصحاري والشطآن.
إن من خير ما يعكس اهتمام وطموح السعودية في مجال صناعة السياحة ما أعلن عنه صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان ولي العهد حول مشروع “البحر الأحمر” في 31 يوليو 2017م وتبلغ مساحة المشروع الإجمالية حوالي 34 ألف كيلو متر مربع، ويتضمن أكثر من 50 جزيرة طبيعية، بين منطقتي أملج والوجه، ويُتوقع وضع حجر الأساس للمشروع في الربع الثالث من العام 2019 م ولا يحتاج زائروه أو مرتادوه المنتظرون إلى تأشيرة دخول سعودية، حيث أن الأنظمة المطبقة في المشروع تختلف عن أنظمة السعودية، وهذا وفق ما أعلن عنه أثناء الكشف عن ملامح المشروع.
وسيشكل مشروع البحر الأحمر وجهة سياحية رائدة، تتربع على عدد من الجزر البكر في البحر الأحمر. وقريباً من المشروع، تقع مدائن صالح الغنية بالآثار والتاريخ، وهي أيضاً تمتاز بجمالها العمراني. كما ستتاح لزائري مشروع البحر الأحمر، وعلى بعد دقائق قليلة من الشاطئ الرئيسي، فرصة التعرف على الكنوز الخفية في منطقة المشروع نفسه، مثل المحمية الطبيعية لاستكشاف تنوع الحياة النباتية والحيوانية في المنطقة. وسيتمكن هواة المغامرة من التنقل بين البراكين الخاملة الواقعة بجوار منطقة المشروع، وسيحصل عشاق الغوص على فرصتهم في استكشاف الشعاب المرجانية الوفيرة في المياه المحيطة به. وسيكون مشروع البحر الأحمر واحداً من المشروعات التي ستسهم في تطوير مفاهيم السياحة وأدواتها ومنتجاتها وأغراضها، وفق التقارير المتعددة التي نشرت حوله. وسيكون صندوق الاستثمارات العامة مالكاً وممولاً للمشرع لزيادة إجمالي الناتج المحلي بـ 15 مليار ريال سعودي سنوياً.
ولم يكن مشروع البحر الأحمر الوحيد الذي لفت الأنظار في العام 2017م، فقد سبقه مشروع “القدية” الذي سيكون أكبر مدينة ترفيهية ورياضية وثقافية في العالم. وتقع القدية جنوب غرب العاصمة الرياض بمساحة تبلغ 334 كم مربع، وسيكون صندوق الاستثمارات العامة المستثمر الرئيس للمشروع، ومن المقرر وضع حجر الأساس بداية العام 2018 ويضم 4 مجموعات رئيسة هي: الترفيه ورياضة السيارات، والرياضة المائية، والإسكان والضيافة، وسيكون هناك بيئات مثالية متنوعة تشمل مغامرات مائية ومغامرات برية.
ستنفق الدولة مبلغ 10 مليارات ريال للبنية التحتية. وسيوفر المشروع في المرحلة الأولى 41 ألف وظيفة، كما سيسهم في الناتج المحلي بقيمة 13 مليار ريال. أما في العام 2030 فسيوفر 70 ألف وظيفة، وسيسهم حينها في الناتج المحلي بـ 19 مليار ريال.
ويتوقع أن تكون “القديّة” وجهة سياحية كبرى على مستوى الخليج والعالم. وبهذه الأهداف الكبرى تكون السعودية قد انتقلت إلى مستويات متقدمة جداً من التنافسية والمنافسة، ليس على مستوى المنطقة فحسب وإنما على مستوى العالم أيضاً.
كما أن مدينة “نيوم” المعلن عنها مؤخراً أيضاً 24 أكتوبر2017م ستقدم العديد من المنتجات والفرص السياحية، وهي، في جانبها الثقافي، تسعى لتصبح محوراً يجمع أفضل العقول والشركات لتخطي حدود الابتكار إلى أعلى مستويات الحضارة الإنسانية وفق التقارير المنشورة عنها. وقد ذكرت التقارير نفسها أنه قد تم تصميم هذه المنطقة الخاصة لتتفوق على المدن العالمية الكبرى من حيث القدرة التنافسية، ونمط المعيشة؛ إذ من المتوقع أن تصبح مركزاً رائداً للعالم بأسره. وسيتم دعم المشروع بأكثر من 500 مليار دولار خلال الأعوام القادمة من قبل صندوق الاستثمارات العامة وبالإضافة إلى المستثمرين المحليين والعالميين.
ففي “نيوم” شواطئ خلابة تمتد على أكثر من 460كم من السواحل، وفيها العديد من الجزر البكر، والجبال الشاهقة الخلابة على ارتفاعات تصل إلى 2500م، وهي تطل على خليج العقبة والبحر الأحمر، وتغطي قممها الثلوج في فصل الشتاء. وفي “نيوم” كذلك صحراء شاسعة جاذبة للسياحة. وعصرياً تتمتع “نيوم” ببنية تحتية تُحاكي المستقبل، وتُخضع التقنيات الحديثة لخدمة الإنسان ليعيش المستقبل، وتعتمد المدينة معايير عالمية لنمط العيش من حيث الجوانب الثقافية، والفنون، والتعليم. أما بالنسبة إلى مستقبل الإعلام والإنتاج الإعلامي في “نيوم” فإنه، كما تذكر التقارير المنشورة عنها، سيشمل تطوير صناعة الإنتاج التلفزيوني والسينمائي، وتطوير المحتوى الرقمي، وتطوير صناعة ألعاب الفيديو، وغيرها. وأما مستقبل الترفيه، فيشمل المنشآت والأنشطة والفعاليات الترفيهية والرياضية والثقافية وغيرها، ومستقبل العلوم التقنية والرقمية في نيوم سيشمل الذكاء الاصطناعي، وتقنيات الواقع الافتراضي، ومراكز البيانات، وإنترنت الأشياء، والتجارة الإلكترونية.
لعلنا نلاحظ إذن أن المشروعات السياحية المدرجة ستنقل السعودية إلى مصاف الدول الكبرى التي تُولي اهتماماً بالغاً لصناعة السياحة. وسينعكس الاهتمام بالسياحة ليس فقط على دعم مستقبل الاقتصاد السعودي المنعتق من إدمان النفط، بل كذلك على إنعاش نشاطات وفعاليات وموروثات ثقافية وفنية في غاية الأهمية.
السياحة ليست مجرد تأشيرات، وتنوع ثقافي، وتسهيلات ترفيهية، بل هي أيضاً منظومة كبيرة من الخدمات التي تتطلب بنية تحتية متكاملة في النقل والإسكان ومراكز التسوق، ما يعني خلق مجالات رحبة للاستثمار، وخلق فرص عمل لا محدودة. والسياحة كذلك ليست فنادق ووسائل نقل فحسب، بل هي، بالإضافة إلى ذلك، إعادة هيكلة للثقافة المحلية برمتها: التراث والآثار ومناطق الترفيه. وهي فوق ذلك إعادة صياغة لسلوك المواطنين، وطريقة تفكيرهم، وحسن تقديرهم لعلاقاتهم مع الآخرين في ظل ثقافة جديدة تقتحم عليهم جدرانهم الحصينة. أو هي التي كانت حصينة.
وبهذه الأهداف الكبرى تكون السعودية، كما ذكرنا في مكان سابق، قد انتقلت إلى مستويات متقدمة جداً من التنافسية والمنافسة، ليس على مستوى المنطقة بل على مستوى العالم. ولم لا مادامت العوامل التي تقود إلى ذلك متوفرة، وأهمها: قوة الإرادة، وحسن الإدارة، والتخطيط، وتوفير الأموال، والقدرة على استثمارها، وإعداد الكوادر المتفوقة التي ستنهض بالحمل. نعم فكل ذلك يحتاج أيضاً إلى وقت كافٍ ونحن على غير عجلة من أمرنا.
من الصناعات المهمة أيضاً التي يلتقي فيها الاقتصاد والثقافة لدعم التنمية، السينما إنتاجاً واستهلاكاً، فهي من الفعاليات التي استرعت انتباه صانع التنمية الجديدة في السعودية. فبعد أن غرقت السينما متوارية سنوات عديدة خلف ذرائع شرعية ، أو شبه شرعية، متشددة، فقد وجدت اليوم فرصتها للخروج من القمقم، فالسينما ستكون مجالاً مهماً للاستثمار، وهي ستخلق فرصاً وظيفية جديدة، كما أنها في الوقت ذاته مجال مهم للتنمية الثقافية والاجتماعية بطبيعة الحال.
تشير بعض التقارير كما يذكر د.إبراهيم البعيز إلى أن مؤشر الأثر المضاعف لصناعة السينما تراوح بين 2 في بريطانيا و2.67 في استراليا، والمتوسط العالمي 2.43 مما يعني أن كل دولار ينفق على القطاعات الثلاثة (الإنتاج – التوزيع – العرض) لصناعة السينما يكون مردوده على الناتج المحلي 2.43 دولار.
يضاف إلى ذلك أن صناعة السينما تعتبر محركاً أساسياً لعدد من الصناعات الإبداعية الأخرى مثل النشر (الرواية وكتابة النص) والفنون التمثيلية، والموسيقى، والتصوير، والتصميم، والأزياء، والبرمجيات، والعمارة (تصميم وديكور مواقع التصوير)، التلفزيون (أحد منافذ العرض للأفلام) والإعلان (لتسويق الأفلام).
ونظراً لهذه العوائد الاقتصادية لصناعة السينما، تبنت كثير من الدول برامج ومبادرات تقدم قروضاً لدعم المشاريع السينمائية، وفيها إعفاءات تبدأ من 20% كما في فرنسا وترتفع لتصل إلى 40% كما في سنغافورا. وعلى الرغم من أن هذه الأفلام أنتجت في تسعين دولة، إلا أن هناك هيمنة لخمس دول (الولايات المتحدة، الهند، اليابان، الصين، فرنسا) إذْ يتجاوز إنتاجها نصف (56%) الإنتاج العالمي. ففي الولايات المتحدة تجاوز عدد مرتادي صالات العرض السينمائي 1.3 مليار شخص في عام 2015م، في حين أن عدد مرتادي المدن الترفيهية التي لم يصل 400 مليون والملاعب الرياضية لم يتجاوز عدد مرتاديها 134 مليون شخص.
وسيتم السماح بفتح دور السينما منذ الربع الأول من بداية 2018م. وفي هذا السياق تعاقدت السعودية مع واحدة من أكبر الشركات في العالم في مجال التشغيل السينمائي، وهي شركة آي ماكسIMAX الأمريكية وذلك لإقامة وتشغيل عشرين قاعة سينما في السعودية في السنوات الثلاث المقبلة. وشركة آي ماكس تقول عن نفسها أن 450 مليون شخصٍ قد زاروا دورها السينمائية منذ العام 1970م فلديها أكثر من ألف دار سينمائية في أكثر من 66 بلداً حول العالم، وهي تُعد السعوديين ببناء الصالات “الفخمة الفريدة” وفقاً لتصريحات ريتشارد جيلوفون الرئيس التنفيذي للشركة الذي يؤكد أيضاً أن “الشاشات ستكون عالية الدقة مع إضافة أحدث التقنيات”.
ووفقاً لتقارير صحفية توقعت وزارة الثقافة والإعلام السعودية أن صناعة السينما ستسهم في زيادة الناتج المحلي الإجمالي بأكثر من 90 مليار ريال بحلول 2030.
وقد أعلن صندوق الاستثمارات العامة (الصندوق السيادي في السعودية) عن توقيع مذكرة مع شركة (آي إم سي أنترتيمنت) وهي أكبر مزود ومشغل لدور السينما في العالم وذلك لبحث فرص الاستثمار والشراكة في المملكة.
أما صناعة السينما السعودية نفسها، أي إنتاجها محلياً، فستشهد هي الأخرى تطورات كبيرة، وستقدم خدمتها المنتظرة للتنمية الثقافية والفنية، ولكن أيضاً ستفتح أحد المجالات المهمة للاستثمار، ولإيجاد الوظائف الجديدة للشباب.
ويندرج في هذا السياق من الصناعات الثقافية المسرح، والإنتاج الفني (التلفزيوني خصوصاً) فقد ظهر اهتمام واضح بهذه الصناعات متمثلاً في بعض المبادرات التي أعلنت مؤخراً في المملكة، ومنها مبادرة “مجموعة روتانا” التي أعلنت خلال الدورة الثانية لمنتدى أسبار الدولي 2017 وتتضمن تنظيم ورش وحلقات ودورات تدريبية في التمثيل والإخراج والإنتاج بالمشاركة مع الهيئة العامة للمنشآت الصغيرة والمتوسطة وعلى أعلى المستويات.
كما يتمثل ذلك فيما أعلن مؤخراً من نيّة هيئة الإعلام المرئي والمسموع الإعلان خلال أسابيع عن “المدينة الإعلامية في السعودية” وهي ستنشئ البنية التحتية والتجهيزات المطلوبة لصناعة الكثير من المنتجات الفنية والإعلامية، وستكون مصدراً استثمارياً ثرياً يخلق العديد من الفرص الوظيفية، ولاسيما إذا استعادت السعودية مشروعاتها الإعلامية الكبرى الموجودة حتى اللحظة في الخارج.
إلى جانب ما سبق نشأت اليوم صناعات ثقافية فنية وإعلامية جديدة آخذة في التشكل كمصدر من مصادر الدخل، وتنوع الاقتصاد وهي قد تكتسب أهمية أكبر وأرحب في وقت لاحق ومنها قنوات اليوتيوب كما سنرى في مكان لاحق من هذه الورقة.
ولتعزيز الاستثمار في الفنون وأدوات الترفيه ووسائله أنشأت الدولة الهيئة العامة للترفيه للعمل على رفع جودة قطاع الترفيه، وفقاً للمعايير الدولية من أجل منافسة قطاعات الترفيه العالمية. وقد خصصت للهيئة ميزانية سنوية مستقلة، فيما تتألف مواردها من مخصصاتها في الميزانية العامة للدولة، وأيضاً المقابل المالي الذي تتقاضاه عن الخدمات والأعمال التي تقدمها.
وسينتج عن مشروعات وفعاليات هيئة الترفيه توفير العديد من فرص العمل التي يتوقع أن يبلغ عددها حوالي 22 ألف وظيفة.
ومن مشروعات الهيئة إطلاق أول مجمع ترفيهي بحلول عام 2019 كما تهدف مخططات الهيئة إلى خدمة حوالي 50 مليون زائر سنوياً بحلول عام 2030. ويتوقع أن تسهم مشروعات الترفيه بزيادة إجمالي الناتج المحلي بمقدار 8 مليارات ريال سعودي.
كما أن من أهداف الهيئة الإسهام في تنمية السياحة الوطنية، والاستفادة من التراث الوطني في المشروعات المتوقع تنفيذها، وذلك فيما يعرف بالسياحة الترفيهية.
لابد أن نذكر هنا أن من النشاطات التي تعد من مولّدات الثقافة صناعة المهرجانات والمعارض والمؤتمرات والاجتماعات. وهي تشمل اللقاءات والتجمعات المنظمة، المتخصصة وغير المتخصصة، التي يرتادها الأفراد أو المنظمات أو الشركات ممن يجمعهم اهتمام أو اهتمامات مشتركة، وتكون تلك الاهتمامات المشتركة هي الحاكمة لتلك اللقاءات أو التجمعات فيما يُقدم من أفكار وآراء، وفيما يعرض من أوراق عمل أو بحوث أو دراسات أو مشروعات ومبادرات، أو فيما يتداول من سجالات وحوارات للعصف الذهني. وهذا النوع من صناعات الثقافة أصبحت له قواعده وتقاليده وتشريعاته، وهو من وجهة اقتصادية أحد أوجه الاستثمار المهمة والمؤثرة في مسيرة التنمية، فهو عامل فاعل في تنشيط عدد من أوجه الخدمات مثل النقل، والضيافة، والتسوق وخلافه. لا بل لقد قامت اليوم في العالم ما يمكن أن يسمى ببورصة “المتحدثين” في هذه المؤتمرات والمهرجانات، وهم من السياسيين أو المفكرين والمثقفين والخبراء. ونعرف أن من هؤلاء المتحدثين من يصل سعر مشاركته للمرة الواحدة ما لا يقل عن المائتي ألف دولار (750 ألف ريال سعودي) والعمل جار في المملكة حالياً على عمل تنظيم بورصة للمتحدثين السعوديين أيضاً. وهذا التنظيم يعمل عليه فعلياً البرنامج الوطني للمعارض والمؤتمرات (أنشئ في العام 2013م) وقد أوكل إليه الإشراف والتشريع لكل ما يتصل بالفعاليات التي تدخل في صناعة الاجتماعات: المعارض والمؤتمرات، ومن أهدافه كما جاء في بعض منشوراته: تشجيع الاستثمارات في صناعة الاجتماعات، وخلق بيئة تنظيمية وإجرائية محفزة على الصناعة، والعمل على تطوير مراكز ومدن للمعارض، وتطوير المعايير الخدمية في صناعة الاجتماعات، وتوفير المعلومات للمستثمرين والمستفيدين، وقياس الآثار الاقتصادية الناتجة عن صناعة الاجتماعات ونسبة مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي. هذا فضلاً عن توفير الفرص الوظيفية، وتطوير الموارد البشرية وتأهيلها في مجال صناعة الاجتماعات. بل إن من أهداف البرنامج أيضاً تسويق المملكة كجهة مناسبة لإقامة الفعاليات (المؤتمرات والمعارض)، والعمل على تكوين التحالفات واستقطاب الاستثمارات الأجنبية، وجلب الفعاليات الدولية إلى المملكة. ووفق تقارير نشرت عن البرنامج مؤخراً فالسعودية خلال العام 2017م احتضنت 10129 فعالية مرخصة، أي بزيادة 16% مقارنة بالعام 2016م وبزيادة 33% مقارنة بالعام 2015م واستحوذت قطاعات الرعاية الصحية والتعليم والتقنية والاتصالات على الحصة الأعلى من الفعاليات.
وتُعدُّ الأكاديمية السعودية لإدارة الفعاليات، بحسب تصريحات المسؤولين فيها، أول مؤسسة تعليمية تدريبية متخصصة في إدارة الفعاليات في الشرق الأوسط، وستكون أحد أذرع التطوير في صناعة المؤتمرات والاجتماعات في السعودية.
وهكذا فالبرنامج الوطني للمعارض والمؤتمرات يعد اليوم المنظمة الأساسية الموكل إليها تنمية قطاع المعارض والمؤتمرات والاجتماعات، التي بدورها ستكون، إضافة إلى رسالتها الثقافية، مناطاً لتحفيز الاقتصاد، وخلق فرص وظيفية للشباب بلا أدنى شك.
من جهة أخرى سنعرض الآن إلى موضوع آخر يتصل بالبحوث العلمية (الصناعة الفكرية الثقيلة) فهي تتطلب كما يعلم الجميع مختبرات، وأدوات، ومواد، وباحثين، وإدارات مساندة، وبالتالي ميزانيات للصرف على التنفيذ من أجل بلوغ النتائج. وهذه النتائج نفسها تكون في كثير من الأحيان “المنتجات” العلمية أو الثقافية التي يتم تسليعها، وتسويقها، وإدراجها في قوائم المنتجات التجارية. وهكذا تكون دورة البحوث العلمية كلها “صناعة” تترجم نفسها إلى وظائف، واستهلاكات، ومحفزات للاقتصادات الوطنية. ومن الملفت أن من توجهات التنمية الجديدة في السعودية ليس فقط دعم البحث العلمي والتطوير كما في المنظمات المختصة مثل مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية، أو جامعة الملك عبدالله للعلوم والتكنولوجيا (كاوست) أو الجامعات السعودية الأخرى بل إن من توجهات التنمية السعودية الجديدة الدفع إلى الأمام بـ “ريادة الأعمال” والإبداع والابتكار. فمن أجل تنمية اقتصادية صلبة ومستدامة وتقوم اليوم أقسام متخصصة لدعم الابتكار وريادة الأعمال في الجامعات السعودية، بل لقد أنشئت كليات متخصصة في هذا المجال الحيوي منها “كلية الأمير محمد بن سلمان لريادة الأعمال” في جامعة كاوست ومنها “معهد الملك سلمان لريادة الأعمال” بجامعة الملك سعود. وتضم سابك أكثر من عشرين مركزاً للابتكار في الرياض والخارج. وأوكل إلى هيئة المنشآت الصغيرة والمتوسطة مهمة تبني الابتكار ودعمه ورعايته إلى أن يصل إلى بر الأمان، ويتحول إلى منتج ينتفع به، ويحقق عوائد مالية. وقد أقامت الهيئة شراكات مع عدد من الجامعات لدعم الابتكار، وفي مقدمتها جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، كما أقامت شراكة مهمة مع منتدى أسبار الدولي لإقامة معرض مهم للمبتكرين السعوديين (ابتكر) واطلاق جائزة الابتكار لأول مرة في المملكة العربية السعودية.
وأطلقت هيئة المنشآت الصغيرة والمتوسطة بالتعاون مع عدة جهات مبادرة “السعودية تبتكر” لكي تحفز وعي الناس بشكل أكبر تجاه التحول الرقمي، وتعرفهم على مهارات القرن الواحد والعشرين، ومنها الابتكار. فالمبادرة في المجمل تهدف إلى نشر ثقافة الابتكار.
إن مبادرة “السعودية تبتكر” من المبادرات التي تسعى لتحقيق رؤية المملكة 2030 عن طريق تحويل الموارد الطبيعية إلى موارد بشرية باستثمار “العقول” وبزيادة نمو الناتج المحلي من خلال تفعيل أودية التقنية، ومراكز البحوث، وتطوير الشركات. وتطوير الخدمات الحكومية وتشريعات ودعم الابتكار.
ووفق بعض أدبيات الهيئة فإن لديها استراتيجية ماضية حتى العام 2020م تتضمن إنشاء ستة مراكز ابتكارية، بالتعاون مع جهات دولية، أنشئ منها حتى الآن ثلاثة، أحدها مع شركة سيسكو، متخصص في أمن المعلومات وإنترنت الأشياء (الرياض) وآخر مع الجي إي (GE) متخصص في التصنيع الرقمي وتحليل البيانات (الظهران). وثالث مع مدينة الملك عبدالعزيز متخصص بأندستري 4.0 (الرياض).
لعلنا نذكر هنا أن الثورات التكنولوجية والمعلوماتية نفسها التي حدثت في العالم هي بطبيعة الحال ذات بُعد ثقافي معرفي، بل إنها هي التي شكلت ما يعرف اليوم بمجتمع المعرفة، الذي نشأ عنه ما يعرف أيضاً باقتصادات المعرفة، التي بشرت وتبشر باقتصادات جديدة غير تقليدية، وتقنيات متقدمة نقلت العالم إلى ما يسمى بالثورة الصناعية الرابعة، ثورة إنترنت الأشياء، والروبوتات، والذكاء الاصطناعي الذي أثار المخاوف الشديدة بتعطيل أو عرقلة التدخل البشري في الإنتاج على المدى الطويل، أي خروج التقنية عن سيطرة الإنسان، لولا أن “اقتصاد المستقبل” أو “الثورة الصناعية الخامسة” تبشر حالياً بالمواءمة بين “البشري” و”الآلي” في سياق “الإنتاج” ليعود الذكاء الاصطناعي إلى مظلة السيطرة البشرية، وكما يقول أحد المعنيين بهذا المجال لا يمكن أن يتمرد المصنوع على الصانع إلا في حالات أسطورية أو خرافية نادرة.
وسيكون التطوير في مضمار الثورة الصناعية الخامسة منصباً على التقنية في تجلياتها الجديدة المذهلة، لكن سيواكب ذلك تركيز واهتمام بالموارد البشرية وإعدادها للمواكبة، والتحكم، والإضافة.
وإذا اعتبرنا أن “المعرفة” بشكل عام ذات بعد ثقافي بشكل أو بآخر فإن ما يسمى اليوم بالبيانات الضخمة “Big Data” أصبحت من أكبر مخازن المعلومات، أو المعرفة. فعدا ما أضافت للبحث العلمي، والتحليل، وبلورة النتائج، فهي تصبح صناعة بحثية مهمة في الكشف عن سلوك الناس، وثقافتهم الاستهلاكية، ما تفيد منه شركات الخدمات والأغذية، على سبيل المثال، في إعادة هيكلة الخدمات والمنتجات، وما يترك كل ذلك من تأثيرات على الأسعار، وعلى تطوير المنتجات والخدمات.
وهكذا تزداد علاقات “الثقافي” بـ “الاقتصادي” تقارباً وتلاحماً وتبادلاً للمنافع.
وفي المجمل فإننا نعتقد حقيقة أن الاقتصاد اليوم لم يعد يأخذ بزمام السياسة فقط كما كان دائماً، فهو الحاكم الأول والأميز فيها، بل ينطبق الحال كذلك على موضوع الثقافة نفسها، فالاقتصاد اليوم هو الملهم للثقافة، وهو المعيار، أحياناً، الذي يقضي بالبقاء، أو يحكم بالزوال.
وفي عالم النشر والكتب تهاوت صروح دور النشر والتوزيع التقليدية، وأصبح الحصول على الكتاب أو المادة الفنية أقرب إلى الإنسان من بنانه عبر محركات البحث الضخمة، أو عبر تطبيقات التسوق الذكية التي تسهم في التسريع بنشر المعرفة، وهي في الوقت ذاته تعيد هيكلة اقتصاديات هذا النوع من الصناعات الثقافية.
ومن جهة أخرى فقد حلت المنصات الإليكترونية اليوم محل الوسائل التقليدية في الحوار، وفي نشر الأخبار والأفكار. وهي تميزت بالمواكبة الآنية، والسرعة، والتفاعل، وخفض التكاليف، ما دعم اليوم فكرة ما يسمى بـ”ديمقراطية المعرفة” فالجميع شركاء في صناعة الثقافة في مفهوماتها ومواصفاتها الجديدة، والجميع مستهلكون لهذه الثقافة.
وعلى هذا فهناك كيانات اختفت من آفاق صناعة الثقافة وظهرت في مكانها كيانات جديدة مختلفة. لا بل أن الثورة التقنية في مستوى الثورة الصناعية الرابعة، والذكاء الاصطناعي والروبوتات، بلغت من الدقة والجنون بأن أصبحت الآلة ذاتها منتجة للثقافة، فهي قادرة على التفكير مثل الإنسان!!. فتذكر بعض التقارير أن صحيفة الواشنطن بوست مثلاً شرعت في استخدام تقنية الذكاء الاصطناعي، لإنتاج روبوتات صحفية قدمت حوالي 300 تقرير قصير. وقدمت تنبيهات حول “أولمبياد ريو” في البرازيل. ثم توسعت في استخدامها تلك التقنيات لتغطية فعاليات من بينها انتخابات الكونجرس، وفعاليات رياضية محلية، ليصل ما أنتجته من مواد إلى 850 مادة صحفية في عام واحد (بمعدل أكثر قليلاً من مادتين في اليوم الواحد). واستخدمت وكالة الأسوشتد برس الروبوتات لتغطية الأعاصير التي اجتاحت بعض الولايات الأمريكية، أما صحيفة “يو إس توداي” فقد استخدمت برمجيات لإنشاء مقاطع فيديو قصيرة.
وتسعى صحيفة “واشنطن بوست” لمعرفة كيفية استخدام، الروبوت (الصحفي الإلكتروني) لمساعدة الصحفيين في إعداد التقارير الفنية والمالية وتحليلها. وخلال الانتخابات الأمريكية الأخيرة، التي أسفرت عن انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية، استخدمت هذه البرمجيات، وفق بعض التقارير، لتنبيه غرفة الأخبار عندما بدأت نتائج الانتخابات تتجه لغير المتوقع، مما أتاح للصحفيين مهلة لتغطية الأخبار واتجاهاتها بدقة. بل تذهب بعض المؤسسات لأبعد من ذلك، عبر استخدام الروبوتات للمساندة القانونية للصحفيين بطرق أخرى، بل وتصل لتسهيل المعلومات الجامدة، وتحولها لمسار جديد، لكشف اتجاهات، أو تحليل البيانات المالية وغيرها. ويجري عن طريق هذه التقنيات تحديث القصص الجارية سريعة التغير مثل الأحداث المناخية.
ويشار إلى أن التقارير التي ينتجها الصحفيون الآليون (الذكاء الاصطناعي) يمكن أن تخدم المتخصصين، ويمكن أن تزيد من الوصول إلى مصادر الأخبار. والنموذج الإخباري الرقمي ينتج الرسائل القصيرة والمباشرة، ويقدم نتائج وملخصات أسهل، ويعطي للصحفيين البشريين المحترفين الفرصة للقيام بأعمال أخرى أكثر مهنية.
وتقول وسائل الإعلام التي تستخدم (الصحفي الروبوت) أنها تهدف إلى تمكين الصحفيين من البشر من القيام بمزيد من عمل “ذي قيمة عالية”، عوضاً عن إضاعة الوقت للقيام بوظائف اعتيادية أو تقليدية!.
وتقدر وكالات الأنباء أنه تم توفير 20 في المائة من الوقت الذي يقضيه الصحفيون في التغطية، كما ساهم هذا الوضع في خفض التكاليف.
وفي السياق الإعلامي نفسه تعرض الساحات التواصلية – الاتصالية مزايا عديدة ومتنوعة لصناعة محتوى “ثقافي” رقمي متفاعل. وقد انعكس هذا التغيير والتأثير الإيجابي لوسائل الإعلام الاجتماعي، وفق بعض التقارير، على القطاع الاقتصادي وريادة الأعمال في العالمين العربي والغربي، فقد استغل صناع الأعمال والمشاريع والعلامات التجارية والمهتمون بعالم الاقتصاد المنصات السوشيالية للترويج لخدماتهم ومنتجاتهم. فقد لعب “المحتوى الرقمي” دوراً مهماً” في لفت وجذب أنظار مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي. كما أسهم “المحتوى الرقمي” المميز في ارتفاع وتيرة التفاعل بين المنتجين والمستهلكين للخدمات والعلامات التجارية.
إن ما يتم نشره في مواقع شبكات التواصل الاجتماعي هو محتوى ثقافي قُدم عبر أدوات ومنصات جديدة غير الوسائل التقليدية المعتادة (الكتب.. الصحف.. أقراص الكمبيوتر بكل أنواعها).
المحتوى الرقمي الناجح والمتفاعل عبر شبكات الإعلام الاجتماعي (السوشيال ميديا)، استطاع خلق حالة ثقافية جديدة، وفتح باباً للحوار مع المجتمع الرقمي “الافتراضي” عبر التشجيع للدخول في محادثات متنوعة ومختلفة الأهداف، ومن ذلك، كما تذكر تقارير ذات اهتمام، أن إحدى العلامات التجارية، أو أحد أصحاب المشاريع، قد يفتح باباً للنقاش مع متابعيه لمعرفة آرائهم حول منتجاته التجارية أو خدماته. وهذا النوع من “المحتوى التفاعلي” يصنفه خبراء الإعلام الاجتماعي على أنه استراتيجية تفاعلية تهدف إلى تطوير الخدمات والمنتجات التجارية، ووسيلتها جسر من المناقشة بين العلامة التجارية والمستهلك.
أما موقع يوتيوب، فهو لم يعد مجرد موقع إلكتروني لمشاركة مقاطع الفيديو فقط، بل أصبح ساحة واسعة للتعبير عن الرأي، والتعلم، ومتابعة كافة أخبار العالم. وأصبح يُعدّ لدى البعض وسيلة تغني عن التلفزيون ومواقع الأخبار العالمية، لدرجة أن القنوات الرسمية أصبحت تملك قنوات أخرى على مواقعها لعرض برامجها وإعلاناتها.
وهنا أمثلة لبعض قنوات يوتيوب في جودة المحتوى، وفي مداخيلها الاستثمارية، نوردها لدعم فكرة التقاء الثقافة مع الاقتصاد في كثير من الساحات، في علاقة تفاعلية تبادلية مثمرة، فمن مهمة الاقتصاد تسليع منتجات الثقافة، ومن مهمات الثقافة صناعة المحتوى الجيد، والعمل على تطويره وتهيئة البيئات المحفزة على إتقانه.
فتشير بعض التقارير إلى أن مشاهدات اليوتيوب تبلغ في العام الواحد فوق 800 بليون مشاهدة وتجني مئات الملايين من الدولارات سنوياً. وأحد مصادر دخل اليوتيوب الدعايات أو الإعلانات. وهي إما شريط دعائي بداخل الفيديو يستمر لعدة ثواني ثم يختفي دون أن يتوقف عرض المقطع، وأما عرض الإعلان قبل بداية الفيديو ويستمر لـ 30 ثانية أو أكثر، ولكن باستطاعة المشاهد تجاوز الإعلان بعد 5 ثواني من بداية العرض.
ومن القنوات المشهورة التي تملكها “شركة” وليس “فرداً” وتجني أرباحاً كبيرة قناة الألعاب Machinima وهي الأكثر مشاهدة في تاريخ اليويتيوب حيث حصلت على 4.75 بليون مشاهدة. فإذا اعتبرنا أن كل مشاهدة تحصل على الحد الأدنى من الأسعار وهي $1 لكل 1000 مشاهدة فتكون النتيجة مئات الملايين من الدولارات.
أما من أمثلة القنوات التي يملكها أشخاص وليس شركات فهناك قناة PewDiePie وهي من حيث عدد المشتركين باليوتيوب تعتمد أكثر القنوات على الإطلاق حيث حصلت على 22 مليون مشترك، ويرتفع الرقم بمعدل 100 ألف مشترك أسبوعياً، وهذا الرقم يعتبر خرافياً إذا ما نظرنا للقناة على أن مالكها شخص/ فرد، وهي تحصل على مشاهدات تبلغ 3.51 بليون مشاهدة وقد حصل الشاب الذي يملكها على ما يزيد عن 200 مليون دولار كآخر إحصائية!.
ويعد السعوديون، وفق تقرير لمجلة فوربس، من أكبر مستخدمي موقع يوتيوب في العالم، ونجح الكثير من رواد الأعمال في تكوين مسار مهني عبر استخدام يوتيوب كمنصة لعرض برامجهم، فهناك ثمانية سعوديون بين أشهر 10 قنوات على يوتيوب.
ومن المقرر أن تقوم يوتيوب بافتتاح مقر في مدينة دبي للاستديوهات، وسيكون الأول من نوعه في الشرق الأوسط، وسيقوم بتقديم الدعم والأدوات والنصائح لتطوير المحتوى المصور.
وتعتبر قناتي Uturn السعودية، وديوان المصرية القناتين المسيطرتين في منطقة الشرق الأوسط، وتقومان بتقديم محتوى مخصص للجمهور العربي. كما أن يوتيوب تمثل مصدر دخل كبير لنجومه، مثل بدر صالح صاحب برنامج “أيش إللي” الذي تدعمه “كتكات” و”هواوي” كرعاة للبرنامج.
ومن السعوديين المشاهير على اليوتويب:
حسن عمران، واسم القناةMrMrsnb2 ، وعدد المشتركين 3.7 مليون وعدد المشاهدات: 360 مليون.
بدر صالح، واسم القناة أيش إللي، وعدد المشتركين 3.2 مليون، وعدد المشاهدات: 371 مليون.
ريان الأحمري، واسم القناة MjrmGames ، وعدد المشتركين 3.2 مليون وعدد المشاهدات 336 مليون .
وعبدالرحمن إبراهيم، واسم القناة 7oomy_999 وعدد المشتركين 2.9 مليون، وعدد المشاهدات 491 مليون.
ويغلب على هذه القنوات الفكاهة، والنقد الساخر ولها أن تدخل في نشاط الترفيه. وهي في الوقت نفسه منصة للإعلام تناقش مشكلات تهم المجتمع بهدف تحسين الحياة في المجمل. ومن الجهة الأخرى فهي اليوم تمثل مصدراً من مصادر الدخل المهمة. والإشارة هنا لا تقتصر على هذه القنوات بذاتها، وإنما تمتد إلى مشروع اليوتيوب برمته الذي أضحى في يومنا هذا كما قلنا في مكان سابق منافساً قوياً للقنوات التلفزيونية من حيث نوعية المحتوى، وطبيعة المنتجات، والوسيلة التي يصل بها إلى الجمهور. فاليوتيوب اليوم ساحة رحبة لصناعة الثقافة ولدعم اقتصادات الإعلام بشكل خاص.
ونخلص في هذه الورقة إلى أن العلاقة التكاملية بين الاقتصاد والثقافة في صيغها المختلفة إنما تمضي في العموم نحو الإيجابية، فالاقتصاد أدى، ويؤدي، إلى دعم خطوات تحسين المنتج من أجل خدمة المستهلك، والثقافة في مجالاتها وتجلياتها تفتقت عن فرص حثيثة من الثراء أسهمت في توسيع آفاق التفكير والوعي بالمستقبل.
إن دور المؤسسات والمنظمات المعنية بالصناعات الثقافية عموماً ليس أقل من دعم وتعزيز هذه العلاقة التكاملية ولعلنا نجد في التجارب القريبة منّا حالياً (في السعودية مثلاً) ما يعطي شرعية وترسيخاً لهكذا توجه: …. الثقافة في خدمة التنمية.
والدول التي حولت الثقافة إلى عنصر أساسي في ترسانة اقتصادها وجعلتها في أساسيات توجهاتها، كسبت الكثر من الجولات في الساحات الإعلامية والسياسية والاقتصادية بتكاليف أقل مما يتوقع.
وتسعى دول مختلفة حول العالم إلى استثمار العنصر الثقافي لديها بشكل جاد وممنهج وفي هذا الصدد تشير بعض التقارير إلى أن البرازيل وإسرائيل والمكسيك وكوريا الجنوبية واليابان فهي تسخر البرامج والمبادرات الجادة في السياحة والتلفزيون والمسرح والسينما والإعلام الجديد لترويج ونشر ثقافتها ودعم اقتصادها. بل يذكر أحد الكتّاب أنه تُقاس عند هذه الدول درجات النجاح بالعوائد الاقتصادية المحققة، والصورة الذهنية الإيجابية في مؤشرات الأمم المتحدة.
مشاريعنا القادمة وصورتنا النمطية
ولكم الرأي
