![](https://www.dr-fahad-alharthi.com/wp-content/uploads/2019/09/5555-3.jpg)
ورقة عمل
مقدمة إلى ندوة “الإعلام في زمن العولمة”
المنعقدة ضمن برنامج النشاط الثقافي في المهرجان الوطني للتراث والثقافة (الجنادرية)
يوم 3/3/1429هـ الموافق 11/3/2008م.
بقلم: د. فهد العرابي الحارثي
العولمة؟.. وما أدراك ما العولمة؟!
هي شيء يلوكه مثقفونا في كتاباتهم وخطبهم بين مبشرين ومنذرين، وفرحين وخائفين، ومقبلين ومدبرين، ونحن بين الفرح والخوف، والإقبال والإدبار، نغرق في الحيرة والتردد: هل نحن مع شروط العالم الجديد أو ضدها؟ وهل نحن ضمن السباق أو خارجه؟ شيء واحد فقط نحسه يتحرك من تحتنا؛ هو إرهاص المستقبل الغامض، الذي لا ندري إلى أين سيأخذنا؟ فنحن خلوٌ من العدة والعتاد، ونحن لم نقدر بعد على تحديد ملامح الطريق.
العولمة.. شيء لا علاقة له بتعطيل انتخاب رئيس للبنان، أو باحتلال العراق، أو بإنقاذ أهل دارفور من هلاك الأشقاء، أو بانتشال أهل غزة من طائرات وقنابل الأعداء، ومزايدات وأطماع الأبناء، العولمة مشغولة بتوالي إنجازاتها.. والعرب مشغولين دائماً بإيذاء أنفسهم.
ولا وقت للمعرفة والبناء!.. فالمجد للخراب!
هل يكون الكلام عن العولمة، إذن، ترف معيب، في زمن يعمه الجهل، الجهل الفطري والجهل العمد، وفي زمن يسوده الحقد والضغينة، نتيجة عشائريات ضحلة عرقية وطائفية ودينية، ونتيجة أطماع وغايات نخاسية يشيب لها الرضيع، ويندى لها الحجر؟!
ما علينا! الحق في كل هذا على الطليان!.. ولنتكلم عن العولمة!.. ولم لا؟!.. ولنطيل ونستطرد حول هذا الشيء الذي غيّر العالم ولم يغيرنا، وهو أسدل على الكوكب سحائبه ولم يعدنا نحن إلاّ بظلمات وراؤها ظلمات!.
فنقول وبالله التوفيق: إن الحروب ما كانت سوى وسيلة من وسائل “التصادم” المدفوع بمحركات ناجزة من الخلافات أو الأطماع. وإن الحروب هي الأعلى والأقسى في ما يشمله السلّم الطويل لأنواع التعبير عن “صراع” الحضارات والثقافات. وهي كانت، لهذا، وسيلة فعالة لتحقيق نوازع الهيمنات. تلك الهيمنات التي كبدت البشرية كثيراً من الكوارث والنكبات على مدار التاريخ الإنساني كله. وهكذا؛ فإن الحروب لم يخترعها العرب، ولكنهم استأثروا بها، بعد أن ذاقوا حلاواتها! وبعد أن نعموا بطيب الإقامة في جناتها! فجعلوها بينهم، وقصروها على بلدانهم، وأبروا بها أبناءهم!!
مالنا عدنا للحديث عن العرب؟! إنه الاستطراد أو تداعي المعاني والأفكار، فكيف يمكننا الكلام عن الحرب من دون أن يحضر إلى الذهن العرب؟!
نعود إلى العولمة؛ فنقول: لما جاء العام 1947م، انبرى مارشال مك لوهان، صاحب القرية الكونية، ليقرر بأن لا الحروب ولا الصراعات، لا الانتصارات ولا الهزائم، ستغيّر في طبيعة المجتمع الإنساني ومستقبل علاقاته، وإنما الشيء الوحيد الذي سيكون له الفاعلية في “التغيير” هو تكنولوجيا الاتصال. فتكنولوجيا الاتصال، هي التي ستتيح تواصلا إنسانيا لا ينقطع، توصلا يذيب الفوارق، ويزاوج الأفكار، ويوحد السلوكات. تواصلاً ينقل، في الوقت ذاته، ساحات الصراع إلى مجالات وفضاءات وأشكال مختلفة، غير الحروب أو نوازع التوسع الأخرى، العسكرية وغير العسكرية.
إن إذابة الفوارق، وتزاوج الأفكار، تعني، في غاياتها النهائية، ذلك “الحلم” البعيد، الغائر في الماضي، الباهت البارد في الحاضر، الشارد المشرد في المستقبل.. أي العالمية أو المجتمع الإنساني الواحد!! ولم تستطع هذه الفكرة “المثالية” أن تتخلص من رومانسيتها إلاّ بعد أن اهتدت القوى الكبرى في الكون إلى صيغة تستجيب للحلم!! وتحقق لتلك القوى، مزيداً من النفوذات والأطماع، بل تدفع إلى إعادة حياكة العالم على صورة واحدة لن يكون للمستضعفين فيها من نصيب، ومنهم طبعاً قومنا العرب؟ وهذا هو ما يُعبَّرُ عنه اليوم بالعولمة.
فهذه العولمة، في إطارها التنفيذي، تبدو وكأنها تهدف إلى تحقيق الجزء المهم من ذلك “الحلم” القديم، للمجتمع الإنساني الواحد، فهي تقترح أنماطا من الأفكار، ونماذج من المواقف والتصرفات والسلوكات، تقتضي كلها الشروع في القضاء على الفوارق، وتوحيد الأهداف، وتنمية مساحات المشترك البشري العام.
فالعولمة تنادي، إذن، بالتخفيف من حدة التناقضات والتعارضات والتصادمات. وهي اليوم، في وجهها البهيّ، الليبرالية والنيوليبرالية، وهي الديموقراطية، وهي الشركات المتعددة الجنسيات، وهي السوق المالية المتوحدة المفتوحة، وهي التجارة الحرة ورأس المال الطليق، وهي شبكات الاتصال المتقدمة، وهي تدفق المعلومات وتبادلها.
إن التواصل الكامن في طموح العولمة هو، حسبما يعبر عنه بعض المثقفين المهتمين، تدشين لعصر ما بعد الدولة القومية، أي: الثورة الجديدة في التاريخ، التي ستكون قوتها المجموعة الإنسانية، بدل الجماعة الوطنية والقومية. ويتساءل أحد الباحثين: هل هو انتقال من بُنى القبيلة والشعب والأمة، التي صنعت دول العصرين: الوسيط والحديث وثقافاتها وحضارتها، إلى بنية إنسانية أشمل؟! ذلك، على الأقل، ما توحي به عبارة العولمة، غير أن الأمر في المطاف الأخير لا يعدو أن يكون فرضية فحسب، والتاريخ القادم وحده قمين بأن يقيم الدليل عليها، أو يرفع لباس الادعاء عنها، وتجريدها منه. ومثل هذا القول؛ إنما يعكس ضعف الإيمان بنجاعة العولمة، ويعكس القلق الشديد أيضا حيال نتائجها.
ليس هذا هو كل ما في العولمة، فهي أيضاً.. وأيضاً.. “تدفقات وموجات، تخترق السيادة الوطنية والهياكل الاقتصادية، والمقومات الثقافية، وأنماط التفكير والسلوكات الخاصة بالشعوب والحضارات المختلفة”، وهي تحقق للأقوياء، كما قلنا، أكثر مما كانت تحققه الاجتياحات العسكرية، أو التطلعات الاستعمارية القديمة.. والخاسر الوحيد هم دائماً الضعفاء، أو الذين لم يتمكنوا من بناء نفوذات تكنولوجية واقتصادية مؤثرة. مثلنا نحن.. أي: كما هي حال قومنا العرب.
الغاء السياسي:
إن من الوسائل المثيرة في مشروع العولمة، التطور التقني المذهل في وسائل الاتصال الحديثة في العالم، ما جعل كل العالم حاضرا في كل العالم، دفعة واحدة، وهذا ما أسهم في فضحنا، وفي الكشف عن سوءاتنا وعوراتنا، فهو رفع “الستر” عنا فتحولنا، رغماً عنا إلى “فرجة” لعالم اليوم، أمة ذابحة منذبحة، لا علاقة لها بماضيها الذي كان مجيداً، ولا بمستقبلها الذي لا تعرف كيف ستكون نهايته.. إننا لم ندرك بعد أن في ما فعلته العولمة هو إلغاء تام للمسافات، وإلغاء أيضا للفضاء القومي، فلم يعد أحد سيداً على فضائه؛ حتى في بيته. وإلغاء الفضاء القومي، قلل كثيرا من نفوذ السلطات المحلية، بل أن هناك من المثقفين المعنيين بالعولمة من يعبر عن هذا الواقع الجديد بما يسميه: “إلغاء السياسي” أو نهاية السياسي، وهو واقع جديد في عالم اليوم، يتخذ شكلين واضحين من التفكير والممارسة:
الشكل الأول: يتعلق بالإجراءات، وبتغير مفهومات النفوذ والقوة ومواقعهما. وهذا يرتبط بما يسمى “أقصدة العالم”، أو أقصدة الحياة. فالخصخصة، مثلاً، سحبت امتيازات كثيرة من حوزة السياسي، فهي، في واقع الأمر، تنازل الدولة عن عدد من سلطاتها للقطاع الخاص: الكهرباء، الهاتف، الطيران، البريد، السكك الحديدية، والطرق والموانىء والمطارات… إلخ. بل أن هناك في صفوف النيوليبراليين، كما يذكر بعض المثقفين، من يطالب بخصخصة الأمن الداخلي والخارجي، أي: الشرطة والجيش. وهكذا، يأخذ مبدأ السيادة الداخلية في التقلص والتقهقر.
وإن فكرة تحويل العالم كله إلى سوق واحدة خاضعة لسيطرة الشركات الكوكبية؛ هي أمر يفضي، أيضاً، إلى مثل هذه النتيجة. يقول أحد الباحثين: وهكذا، بعد أن كانت الرأسمالية تستند على قوة الدولة ودورها في تأمين مصالحها، أصبحت الرأسمالية متعددة الجنسيات، وهي في موقع قوي يمكنها من الاستغناء، إلى حد غير قليل، عن بعض وظائف الدولة التقليدية، فهي لم تعد في حاجة إلى قوات مسلحة ضخمة وقوية لتأمين مصالحها الخارجية، إذ إن قوتها الاقتصادية تمكنها من دخول أي دولة. وربما يفسر هذا عمليات خفض نفقات التسليح في الدول المتقدمة طبعاً!، والإلغاء التدريجي للجيوش، والتحول إلى جيوش محترفة قليلة العدد نسبياً، وذات تكنولوجيا بالغة التعقيد. ورأسمالية اليوم، كما يرى بعض المهتمين بأبحاث العولمة، لم تعد في حاجة إلى الدولة في مجال خدمات الأمن الداخلي، وفض المنازعات المدنية، وخدمات البريد والاتصالات. والأكثر من هذا أنه، في ضوء التطور المذهل الذي حدث في نظام النقد الدولي، وتعويم الأسعار، وتحرير القطاع المالي، والاستخدام الواسع لبطاقات الائتمان، لم تعد الدولة مسيطرة على الكتلة النقدية داخل حدودها.
لا مجال، إذن، لأن تكون “كامل” المصالح الاقتصادية الجديدة تحت هيمنة القوى الداخلية للدولة، بل لابد أن يحكمها قانون لا سلطان لأحد عليه إلا السلطة المخولة بتنفيذه، وهي السلطة التي حبلت بالعولمة، وأرضعتها من ثديها، وأعطتها من قوتها، أي: الشركات المتعددة الجنسيات، ومن ثم منظمة التجارة العالمية (WTO)، التي بشرت منذ مولدها بقوانين جديدة، من شأنها أن تنظم حركة السوق، وحركة التبادل. وبسبب رأس المال الذي يتحرك في كل المواقع على الكرة الأرضية ؛ أصبحت سيادة قوانين العولمة تتجاوز سيادة القوانين المحلية. ودول كثيرة وجدت، وستجد نفسها مضطرة إلى تكييف، إن لم نقل تغيير، قوانينها وأنظمتها الداخلية، لتكون متوافقة مع المفهومات الجديدة، والأوضاع الجديدة، لتنقل رؤوس الأموال، ولتدفقات الأسواق، والتجارة الحرة، وتبادل المعلومات وتنميتها.
الشكل الثاني من أشكال إلغاء السياسي: شكل يتعلق بأساليب الحكم، وبمستوى جديد من مستويات العلاقات الدولية. وهذا الشكل يرتبط بنفوذ الإعلام، وقوة سطوته. يقول أحد الباحثين: صار رؤساء الدول، اليوم، غير مطلقي التصرف. وصارت القيود التي تقيد حركتهم، ليست صادرة من الناخبين المحليين فقط، بل تقيد سلوكهم مبادىء عامة، يحميها نظام دولي جديد مفتوح. فالطغيان والاستبداد والديكتاتورية، التي تمارسها بعض الأنظمة فوق الكوكب، لم تعد بمنجى من محاسبة العالم كله (هل انتبه لهذا العرب؟!). أما العلاقات الدولية؛ فقد دخلت مستوى جديداً ومثيراً من مستويات العولمة، إذ أخذ يتحكم في تلك العلاقات الواقع الجديد لتداخل المفهومات، وتماهي القوانين، وتشابك القيم. وقد أدى هذا الوضع إلى إلغاء ما هو تقليدي في تلك العلاقات، ليضع في مكانه الجديد المتداخل المتماهي، ما رفع، في وقت سابق، على سبيل المثال، الحماية عن رجال اعتبروا، في تقويمات العالم الجديد، من أكبر المنتهكين لحقوق الإنسان، (الجنرال بينوشيه/ تشيلي، رولار كابيلا/ الكونغو، صدام حسين/ العراق)، وقديماً.. قديماً.. كان هذا يدخل في باب انتهاك العلاقات الدولية، والتدخل في الشئون الداخلية للبلدان والشعوب، أما اليوم فهو أصبح شكلاً من أشكال سيادة القوانين الإنسانية المشتركة، وهو مازال يكتسب الدعم الكامل من الإعلام ومن المنظمات والهيئات الدولية، الرسمية والأهلية، ما يشكل إزعاجاً غير منقطع لــ “المتضررين” منه؟!.. ومنهم بالتأكيد العرب!
العولمة الثقافية: من عولمة العالم إلى عولمة الأقطار
إن ما أنجزته العولمة على المستويين الاقتصادي والسياسي، مدعوماً بالثورة الهائلة في تقنيات الاتصال ووسائله، اقتضى بالضرورة، من جهة أخرى، صلة أكثر سهولة ويسر بين شعوب اليوم، وبين الحضارات والثقافات، ما جعل فكرة التعارف، والالتقاء أو الاختلاف، أكثر توافراً.
فالعولمة الثقافية، في النهاية، هي الشكل الذي تفضي إليه كل أشكال العولمة الأخرى، فهي تهيىء، في واقع الأمر، المناخات اللازمة لنمو العولمة الثقافية التي تتمتع بقوة دفع، كما يذكر أحد الباحثين، لا تتغذى من الزخم التقني الكثيف، الذي يشهده ميدان الاتصالات فحسب، بل أنها تفيد من آليات العولمة الاقتصادية أيضا. فالعولمة الثقافية، تستغل النتائج التي حققها الإعلام والاقتصاد في تحطيم الحدود، وإلغاء السيادات الوطنية أو التهوين من قوتها.
وهكذا تمضي العولمة، بهذا المعنى، وكما ذكر أعلاه، إلى تعميم أو توحيد الاتجاهات والسلوكات، التي شملت وتشمل كل سكان هذا الكوكب. ويذكر تقرير البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة في الشأن الثقافي: أنه من مانيلا إلى ماناجوا، ومن بيروت إلى بيجين، وفي الشرق وفي الغرب، وفي الشمال وفي الجنوب؛ أصبحت أشكال الزي والمظهر (الجينز، وتصفيفات الشعر الخاصة، وال تي – شيرت) والموسيقى، والعادات المتعلقة بتناول الطعام، والمواقف الاجتماعية والثقافية، أصبحت كلها تشكل اتجاهات عالمية. وحتى الجرائم، سواء كانت تتصل بالمخدرات، أو الاختلاس، أو الفساد، أصبحت متشابهة في كل مكان.
ومهما قلنا أو نقول عن الانكفاءات، التي نتجت وتنتج للوهلة الأولى عن صدمة العولمة؛ فإن ما حدث اليوم في دولة ذات تاريخ وتراث عريقين، مثل فرنسا، لا يمكن فهمه إلاّ في ضوء ما تتعرض له مجتمعات اليوم من تغيرات وتحولات، لم يكن لأحد أن يتنبأ بها من قبل .
“مهاجران في الإليزيه”، تلك كانت صيحة أو دهشة أحد المثقفين (سمير عطا الله) وهو يكتب عن زواج نيكولا ساركوزي “البلغاري” وكارلا بروني “الإيطالية”. والذين يعرفون اعتزاز الفرنسيين بفرنسيتهم، ويدركون مدى تعلقهم بقوميتهم، لم يكونوا يتصورون أن هذا ممكن الحدوث في يوم ما.. قريب على الأقل!.. أي: أن ينتخب الفرنسيون رئيساً لهم هو أحد أبناء المهاجرين البلغاريين، فيكون هو نابليون الجديد، الذي “يتجاوز”، من جهته، فيجعل من عارضة أزياء ومغنية إيطالية، لا تحمل الجنسية الفرنسية، “سيدة فرنسا الأولى”، فتشرق شمس الغد، ويكون في الإليزيه مهاجران “يحكمان” شعباً كان مما يمقت في سلوكه وتفكيره تمسحه، أو تمسكه الدائم، بشوفينية غير مريحة. لا، بل أن نابليون الجديد، يعلن من قلب أفريقيا، أن فرنسا لن تلعب بعد اليوم دور الشرطي في القارة السوداء، وهي ستلغي كثيراً من قواعدها العسكرية هناك، وستخفض عدد قواتها إلى الأدنى في بعض أنحاء القارة. وكل ذلك، من وجهة نظره، لأن العالم قد “تغير”. ولا بد أن تتغير فرنسا، وأن تتغير رؤيتها لمستقبل العالم. وإن حجم التغيير، الذي يعمل عليه ساركوزي، يطال فكرة الانقطاع كلياً مع قيم أو تقاليد “الجمهورية الخامسة”. فهو يعكف على تدشين عصر جديد لفرنسا، لم يدخر حتى تصرفات وسلوك رئيس الجمهورية نفسه، من حيث طريقة حياته الشخصية، ومن حيث علاقته بالناس والإعلام.. وقد بلغ هذا درجة صدمت بعض الفرنسيين، وتجاوزت الحجم الحقيقي لعولمتهم!
ما يحدث في فرنسا اليوم؛ إنما يدخل في باب: عولمة الأقطار؛ التي جاءت تالية لعولمة العالم. والفرنسيون أنفسهم، الذين كانوا يستنكفون عن الحديث مع الآخرين بلغة أخرى غير لغتهم، ها هي أجيالهم الجديدة الآن تتباهى وتتفاخر بإجادة اللغة الإنجليزية، لغة الإنترنت، ولغة السياسة الدولية، ولغة الاقتصاد الجديد، ولغة التجارة العالمية والشركات متعددة الجنسية.
وفرنسا “الساركوزية”، القريبة جداً اليوم من أمريكا، كنا، وإلى وقت قريب، نقرأ عن مقاومتها الشديدة لاجتياحات العولمة، ولاختراقات الثقافة الغالبة، التي اقتحمتهم في صيغتها الأمريكية. فقد ظل الفرنسيون هم أكثر الأوروبيين مناهضة للأمركة. وقد ذكر أحد الباحثين، أن فرنسا تنوع مجال مقاومتها للغزو الأمريكي، فهي تحصن إنتاجها الفكري بإجراءات فرضت على التلفزيون، مثلاً، أن يخصص 60% من برامجه للإنتاج الأوروبي، كي لا يطغى الإنتاج الأمريكي المتدفق، كما حجبت المساعدات المالية والمادية عن جميع التظاهرات الثقافية الفرنسية، التي لا تجعل اللغة الفرنسية لغة أعمالها. كما أنها منعت المسؤولين من الحديث في التظاهرات العامة بغير الفرنسية.
وفرنسا هي التي ألحت، يوما ما، على ألا ينتخب على رأس الأمانة العامة لهيئة الأمم المتحدة، بعد نهاية ولاية بطرس غالي، من لا يتقن الفرنسية. وقد تم لها، في وقته، ما تريد في شخص كوفي أنان.
وفي أحد القمم الأخيرة للدول الناطقة باللغة الفرنسية التي شهدها الرئيس الراحل فرنسوا ميتران دعا المؤتمرين إلى مساعدة فرنسا على الدفاع عن لغتها وهويتها في مواجهة الغزو الفكري الأمريكي.
وقبل ميتران، شن وزيره للثقافة، حملة على الولايات المتحدة الأمريكية في اجتماع اليونيسكو في دورتها التي انعقدت بالمكسيك قائلا:
إنني أستغرب أن تكون الدول (يقصد أمريكا)، التي علّمت الشعوب قدرا كبيرا من الحرية، ودعت إلى الثورة على الطغيان، هي التي تحاول أن تفرض ثقافة شمولية وحيدة على العالم أجمع. إن هذا شكل من أشكال الإمبريالية المالية والفكرية، لا يحتل الأراضي، ولكن يصادر الضمائر، ومناهج التفكير واختلاف أنماط العيش .
أما الرئيس الفرنسي شيراك؛ فقد ذهب إلى أنه عارض بشدة إنشاء مطعم ماكدونالد في برج إيفل.
لقد تغير كل هذا اليوم، فالفرنسيون لم يعدوا الفرنسيين الذين عرفناهم، والرئيس الذي يقاوم “الهيمنة” الأمريكية ليس الرئيس، وعاصمة النور مليئة بماكدونالد، والهامبرجر، وإعلانات الكوكاكولا، وغيرها من المنتجات الأمريكية ذات الصبغة الشعبية الجماهيرية.
إن العولمة الثقافية، وكما يرى بعض الباحثين، هي اغتصاب ثقافي، وعدوان رمزي على سائر الثقافات. وهي تعني: أن ينشأ في وعي الناس ثقافة، أو قيم ثقافية، لا تقوم صلة بينها وبين النظام الاجتماعي (داخل الكيان القومي). وهي ستحمل منظومات من الأفكار والقيم لم تخرج من رحم التطور الاجتماعي الطبيعي. وهذا هو ما يحدث في فرنسا اليوم، وهو يحدث في غيرها من بلدان العالم، وهو واقع جديد، يحتم على الشعوب المغلوبة، التي تعيشه، أن تقرأ العولمة، من حيث هي، بلا مواربة أو مخادعة، استراتيجية قمعية أطماعية، أي في غير ما تبدو عليه في إطارها التنفيذي. إنها، في حقيقة هذا الواقع الجديد، سيادة مطلقة لثقافة الغالب، وإنها كذلك تكريس صريح وواضح لأفكاره وسلوكاته، بل أنها فرض قسري مستبد؛ حتى لأنماط المعاش اليومي لدى شعوبه، وفي داخل مجتمعاته.
فالعولمة، هكذا، جنة من جنات الغالب، التي ظل سنين طويلة يخطط لها، ويحلم ببنائها وتشييدها، ومن ثم بالمكوث فيها إلى أبد الآبدين. وهي، هكذا أيضاً، وبالمقابل، نكال على المغلوبين، مثل فرنسا، ونقمة على المستضعفين، مثل العرب، فهي تدمير لمقوماتهم الخاصة، ومسخ لهوياتهم، التي ظلت دائما تؤكد، هي من جهتها، حقائق الجغرافيا ومسلمات التاريخ.
إن العولمة، هي أفكار القوة، وهي نماذجها الثقافية الحضارية. وهي، لسوء حظنا وحظ أمثالنا من المستضعفين، تسير دائما في اتجاه واحد، ولم نر مطلقا أنها سارت في الاتجاهين: الذهاب والإياب. لذا؛ فإن العولمة، بتعبير بسيط آخر، هي أكذوبة القوي على الضعيف، وهي استدراج له إلى ساحات معقدة من ساحات التعايش الممكن، في الوقت الذي يعلم فيه أنه لا يدرك من قوانين تلك الساحات أي شيء!
ومن أبرز نقاط الضعف في إدراك قوانين تلك الساحات، الوهن الشديد في العلاقة بالنظام الثقافي المسيطر، وهو النظام المتمثل اليوم في عشرات الإمبراطوريات الإعلامية الضاربة، التي تزخ ملايين الصور يومياً، فيستقبلها مئات الملايين من المتلقين، في سائر أنحاء المعمورة، ونحن من بينهم.
إن العولمة على هذا النحو، هي هدف غير نزيه، وهي غاية ليست دائما شريفة، لأنها بطبيعتها، تفتقر إلى ما يمكنه طمأنة الضعفاء والمغلوبين، بحيث تظهر لهم الحد المقبول من الحياد الموضوعي. فالانحياز فيها واضح، بل أن ذلك الانحياز هو طاقتها الكامنة، أو هو فكرتها المركزية، أو هو محركها الأول والأخير!
هل العولمة ضد التنوع الحضاري، وضد التعدد الثقافي، وضد الإختلاف البشري؟
إن خطاب العولمة المعلن، لا يبوح أبداً بشيء من ذلك، فهو أكثر التواء مما نتصور، لكن التطور العفوي أو التلقائي، لمشروع الثقافة الكونية الجديدة المزعومة؛ يقتضي، بالضرورة، الاعتقاد بأن العولمة هي ضد التنوع، وهي ضد التعدد. ونحسب، أن ذوبان العوائق الجغرافية، وتخاذلها، أمام أنماط النفوذات السياسية والاقتصادية والإعلامية؛ هي التي أدت، وستؤدي، إلى مزيد من الانهيارات الثقافية والوجدانية. والثقافات المستندة إلى القوة السياسية والاقتصادية؛ إنما تريد أن تعيد صياغة العالم على صورتها. وهذا يقتضي مسخ الثقافات المحلية أو الخاصة، أو هو سيفضي إلى هدمها وتدميرها، فتكون النتيجة أن لا مكان لفكرة التنوع أو التعدد في هذا العالم.
المقاومة الممكنة.. وغير الممكنة
إن أخطر صور العولمة التي تواجهنا؛ هي: العولمة الثقافية، القادمة من جهة الإعلام. فنحن، نحتاج إلى أن نقاومها، ومقاومتها لا تأتي بإصدار القرارات الرسمية أو الإدارية برفضها، لكن مقاومتها تأتي بالتعامل معها وفق البدائل التي نصنعها، ونقدمها للأجيال، وذلكم – لعمري – يحتاج إلى تعبئة قومية حضارية شاملة، ويحتاج إلى محاولات، جادة ومخلصة، لإعادة اكتشافنا.
كيف يمكن الخروج على شروط هذا العالم الجديد الذي يتغير ويتشكل أمام عيوننا؟ لا مجال!.. والأجدى هو أن نجاريه، ونباريه، ونسابقه، قبل أن يبتلعنا أو يدهسنا، أو يركز أعلامه فوق رفاتنا. ومجاراته، تأتي بالخروج من قوقعتنا، ومن انكفائنا، وبالأخذ بوسائله، وباللعب بسيوفه، وبالنزول إلى ساحاته، فنتحول إلى شركاء له، نعرض بضاعتنا إلى جانب بضاعته، ونصعد هامة المنابر التي يرتقيها، فلا نتركه يستحوذ على السوق وحده، فلا تجد أجيالنا غيره، ولا تقابل من هو سواه. ونحن، على يقين بأن في ما لدينا ما يغرينا، وبأن في ما عندنا ما يروينا، إذا ما أخلصنا النية، وإذا ما أحسنا العمل، وإذا ما كانت ثقتنا في أنفسنا أكبر مما هي عليه في واقع الأمر. ونحن إذا اكتفينا في مقاومتنا، بمجرد الصد والرد، فسنكون كمن يحارب طواحين الهواء، فلا السلاح هو السلاح، ولا الأهداف هي الأهداف، فالسلاح وهن، والهدف وهم.
وإذا أردنا أن يكون لنا موقع قدم، ولو متواضع جداً، في عجلة العولمة السريعة، فنؤثر كما نتأثر، ونعطي كما نأخذ، أقول لكم بكل ثقة، بأن ذلك ممكن جدا، على الرغم من عدم سهولة المهمة البتة، فقد أثبتت الأحداث والتاريخ، أن شعوب العالم تستطيع أن تنصت إلينا عندما نقول مفيداً، وفي ثقافتنا، وفي حضارتنا، كثير مما هو مفيد.
إن الدخول في العولمة باتجاه الآخر؛ أمر ممكن إذا ما وجد التصميم، وإذا ما توفرت الإمكانات اللازمة لذلك، وليس صحيحا دائما أن الآخر لا ينصت إلا لصوته، ولا يطرب إلا لغنائه هو، وتغريده هو. لا شيء يستطيع أن يلغي الشمس إذا ما سطعت، أو يلغي القمر إذا ما اكتمل، والسماء مفتوحة لكل من خلق الله.. فهل نصعد؟!
لقد أثبتنا نحن العرب أننا، بالفعل، غير قادرين على إعادة اكتشاف ثقافتنا، وغير موفقين – في معظم الأحيان – في إعادة صياغتها، فنحن لا نقول إلا المكرور، الباعث على الملل. ونحن لا نبحث إلا عن الجامد المثير للسأم. فأمام العجز عن الاستجابة العملية للنهم المعلوماتي أو الإعلامي، كثافةً، وأمام إصرارنا على الفشل في تقديم ثقافتنا الأصلية التقديم الصحيح، والجذاب، والمثير للاهتمام، نوعاً، فقد لجأ جمهورنا، بقضه وقضيضه، إلى وسائط الآخر، وهي بالفعل الأكثر إثراء، والأكثر إغراء، والأكثر جاذبية. وهكذا، وجدنا أنفسنا مستهلكين، رغما عنا، لثقافات غير ثقافتنا، ولأفكار غير أفكارنا، ولأنماط سلوكية هي من غير أنماطنا، بل أنها لا تلتقي في أغلبها مع رغباتنا الأصلية، ولا تتفق مع حاجات بيئاتنا، أو سياق حضارتنا.
وإذا كان دخولنا المتأخر، في النظام الاتصالي الجديد، يجد تبريره ومنطقة في تخلفنا التكنولوجي؛ فإن من الصعب تبرير عجزنا التام عن إعادة إنتاج ثقافتنا الخاصة بنا، ومن ثم تعبئتها في أوعية أو قوالب وسائطية، جذابة، ومثيرة للاهتمام.
لقد كان من نتائج الإنهاك الظاهر على منجزنا الإعلامي العربي، أن فقدت وسائطنا الإعلامية طريقها إلى وجدانات الناس، وبالتالي؛ ظهر الخلل جليا في وفائها بأهم مما هو مطلوب منها، ومن ذلك:
أولا: القدرة على إثراء الناس في ثقافاتهم الأصلية، وبالتالي؛ تعزيز ثقتهم في تلك الثقافة. ونحسب أن هذا الأمر، بالتحديد، هو ما يعد العمق الصحيح في وظائف الإعلام على إطلاقها. ومن أجل ذلك ترصد الميزانيات الضخمة، ومن أجل ذلك أيضا تستحضر الأفكار، ومن أجل ذلك، كذلك، تعبأ وتؤهل وتدرب الإطارات؛ البشرية؛ التي يكون في مقدرتها أن تجعل من المنجز الإعلامي منجزا حيا، متحركا يمشي فوق الأرض، ويغمرها بالمطر والتفاؤل.
ثانياً: أظهر المنجز الإعلامي العربي الراهن، عدم القدرة، أيضا، على الوصول إلى المستوى النابه من رسالته، وهو: تعزيز فرص المقاومة، وتدعيمها، عن طريق تحصين الناس، ضد ما يمكن أن يسمى بعوامل التعرية الثقافية. وهذا التحصين، إضافة إلى زرع الثقة في الخاص وتكريسها، هو الإبداع الدائم، للبديل القوي، والجذاب، والمنافس.
إننا لا نستطيع أن ندعو إلى قفل الأبواب، أو إلى سد النوافذ، أو إلى حجب أشعة الشموس، فهذا أمر لم يعد ممكنا أصلا، حتى لو رغبنا فيه، أو طمحنا إليه. فالاجتياحات حاصلة رغم أنوفنا، والاختراقات ستتكرر كل لحظة مهما كرهنا، والصالون المفتوح المكشوف باق ومستمر ومتنام، شئنا أم لم نشأ.
إننا لا يمكن أن نضع قفصا حديديا مغلقا حول كل مواطن، فلا يرى ولا يسمع ولا يتكلم ولا يتنفس. لكن من الممكن جدا أن “نثري” وجدانه، قبل أن “يحتله” الآخرون، فنجعل ذلك الوجدان يقبل، في أقل الأحوال وبأقل الأضرار، بمبدأ التعايش بين ثقافته الأصلية، وما هو مفيد من ثقافات أخرى، وأفكار أخرى، أو سلوكات أخرى.
إن مقاومة العولمة الثقافية، ليست دعوة لقطع آصرة التفاعل الثقافي مع العالم الخارجي، أو الانكفاء الثقافي للمغلوب إلى منظوماته المعرفية والثقافية التقليدية. إن مقاومة العولمة، في نظر بعض الباحثين، هي شكل من أشكال الممانعة ضد الاستسلام، وهي أيضا محاولة للبحث عن نقطة توازن في مواجهة عصف التيار الثقافي الجارف، ولكنها، في كل الأحوال، تظل محاولة سلبية للدفاع عن الثقافة والأنا الجمعي، وهي مقاومة خاسرة، إن لم تتحول إلى مقاومة إيجابية، تتسلح بالأدوات نفسها، التي حققت عولمة ثقافة الآخر.
هلع الحرية.. وحرية الهلع!
وإن أساس الفلاح في المقاومة؛ هو الثقة في “الخاص”، والثقة في النفس، وهذه الثقة هي التي تبدد الهلع، عند العرب، من رياح الحرية. فالحرية، هي التي تجعل الأجيال تقبل علينا وعلى ما عندنا باقتناع وإيمان وفداء. والحرية، هي التي ستعمل على تحشيد الناس حول ما يحسون أنه لهم ومنهم وفيهم، والناس بطبيعتهم يمقتون الإكراه ويفرون من القسر، وإذا رضخوا لهما، فهم أجساد هامدة، ودماء باردة، وقلوب شبه ميتة، وهم أقرب إلى التمرد والعصيان في السر دائماً، وفي العلن، كلما وجدوا فرصة لذلك. وفي ظل ما هو متاح اليوم لشباب العرب والمسلمين من اطلاع واحتكاك بثقافات الشعوب الأخرى، وهو كثير، هل رأينا إلا المزيد من التشبث بالعقيدة والتراث والهوية الوطنية؟!، ومهما قيل عن أسباب الصحوة الدينية، التي نلاحظها في كل مكان على خريطة العالم الإسلامي، فلا يمكن إلاّ أن يكون من أهم أسبابها: احتشاد الناس حول عقيدتهم، وحول المصير الغامض لأوطانهم وثقافاتهم، لشعورهم المتزايد بأن هذه الأشياء لهم ومنهم وفيهم، وأنها هي الهوية التي ستقيهم شر الذوبان في سواهم، وهم لا يريدون أبداً أن يكونوا سواهم. بل لعل من أسباب التطرف في تلك الصحوة، من جهة، ومن دوافع التشبث الشديد بالوطن ووحدته، من جهة أخرى، الشعور بالهلاك وبالظلم، وبطغيان الأقوياء، الذين أخذونا، ومسخونا، وهم في أقوالهم وتصرفاتهم لا يبدون أي فهم لنا، أو لثقافتنا، أو لخصوصياتنا.
لابد أن ندرك، بأن الحرية، في قرننا الجديد، هي القيمة الأعلى والأقوى من حيث الازدياد والتكاثر السريعين في الفضاء الذي تشغله أو تسبح فيه. فكأن هذا القرن هو قرن الحرية، سلباً أو إيجاباً. فلم يعد هناك، اليوم، أي أهمية للحُجّاب والحراس والبوابين، الذين كانوا يسمحون بالدخول لمن يريدون، ويمنعون من ذلك من لا يريدون. الأبواب كلها أضحت اليوم مفتوحة، والنوافذ جميعها أصبحت مشرعة، ومنابر الكلام الجديدة ما تبرح منصوبة لكل من يريد الكلام. والدولة التي لا تستطيع أن تقفل فضاءاتها لصدّ القادم من الخارج هي اليوم عاجزة، أو شبه عاجزة، عن مجابهة أو مواجهة ما ينتج حتى في الداخل، وهذه هي إحدى سطوات أو سلطات الثورة الاتصالية والثقافية الجديدة، فلا حيلة ممكنة في مواجهتها، وإذا بقيت، حتى الآن، بعض الحيل القليلة؛ فهي في طريقها إلى الزوال، لسبب بسيط، هو: أن العالم يتغير، والتقنية تتجدد، وهي ستتخلص من كل العوائق والسدود، مهما كان حجمها، ومهما كانت قوتها. وبدلاً من الإنشغال بتلك الحيل القليلة الباقية، الآيلة للزوال حتماً، لماذا لا نفكر، منذ الآن، بل منذ الأمس، في إعداد الخطط والبرامج للبدائل الأجدى والأنفع والأرسخ، من أجل تنمية إعلامية وثقافية مستدامة.. طويلة.. ومن أجل بناء وحدة وطنية متماسكة.. ومن أجل الحفاظ على “الهوية” التي لا تقبل أجيالنا بديلاً عنها؟! ولنظهر نحن، أمام تلك الأجيال، بأننا نمنحها الثقة، وأننا نحن الذين نمنحها الحرية، في زمان لم يعد لدينا السلطة الكاملة عليه. زمان أصبح فيه الكاتب هو نفسه الناشر، وهو نفسه الرقيب. ومدونته الإلكترونية المشاعة، هي صحيفته، وهي كتابه، وهي منبره.. في زمان أصبح المتلقي فيه شريكاً فاعلاً في صناعة الفكرة، وفي صياغة الرسالة، فهو يقرأها، وهو يكتبها، وهو يودعها عقله ووجدانه. وهذه هي ثقافة اليوم، وثقافة الغد، الثقافة التي تمتد أفقياً، فلا تنصب على الرؤوس رأسياً، فنحن في عصر الإعلام التفاعلي الذي سيكتسح كل شيء، وفي مقدمة ذلك الإعلام التقليدي. فالكل في الإعلام التفاعلي يقول.. والكل يتكلم.. ولا سلطة لأحد على أحد. وبمناسبة الإعلام التفاعلي، فقد عمدت دور صحفية في العالم، الذي أدرك حجم ما يتعرض له الكوكب من تغيير، إلى إصدار طبعات مجانية إضافية من صحفها، يقوم بكتابتها وإعدادها الناس والقراء أنفسهم، وهي تعتمد على “القصة الخبرية”. وقد بلغ عدد هؤلاء في واحدة من تلك الصحف، في الدنمارك، أكثر من مليون “محرر”. هذا فضلاً عن فتح أبوابها ونوافذها، لاستقبال المشاركات على الطبعات الأخرى للصحيفة، وعلى مواقعها الإلكترونية، ونشاطاتها الأخرى السمعية والبصرية. لقد أصبح الإعلام صناعة للجميع. وللملاحظة؛ فإن هذه الصحيفة الدنماركية هي صحيفة محلية تصدر في مدينة صغيرة، وتحقق، من وسائطها المتعددة، دخلاً سنوياً يفوق الــ 150 مليون يورو في السنة.. أي: ما يوازي دخل عدد لا بأس به من الصحف الكبرى في منطقتنا العربية.
نحن، أيضاً، في عصر التعليم المفتوح، والجامعات والمعاهد الافتراضية، وقد نتلقى تعليمنا من مدرس موجود في ستكهولم ونحن بين جدران منازلنا في صنعاء أو القاهرة أو الرياض. وشركاؤنا في الفصل الدراسي قد يكونون، في الوقت ذاته، موجودين في أستراليا والجابون والبرازيل وبكين وطوكيو. يمكنك أن تختار المعلم الذي تريد، والعلم الذي تريد، من أي مكان تريد، دون أن تستأذن أحد، ودون أن تبرح مدينتك أو قريتك الصغيرة.
نحن في عصر جعل المتحف البريطاني ومكتبة الكونغرس ومكتبات اسطنبول، في متناول يدك وأنت في أقصى الشرق أو أقصى الغرب، أو في أعلى الشمال أو في أسفل الجنوب. وبإمكانك أن تقرأ الواشنطن بوست أو اللوموند أو أي صحيفة أخرى كبرى تصدر في العالم، وأنت في أي جهة من جهات الدنيا.
وبإمكانك أن تصنع لك أصدقاء ورفقاء في أي مكان فوق الكوكب، وتحاورهم ويحاورونك، وتتبادل معهم المعلومات والأشكال والصور، وتقول لهم ما تشاء، ويقولون لك ما يشاءون، وأنت قابع في كوخك الصغير، في مدينتك أو قريتك النائية.
وهذا كله؛ إنما جاء نتيجة إعجاز العصر الجديد: الإنترنت والإيميل، ورسائل الــ SMS أو الجوال، والبلوتوث، والترانسفير جيت الجديد. فهذه التقنيات أعطت، مجدداً، للمكان مفهومه الأحدث، فهو بلا أسوار أو حوائط أو سقوف. أي: أن المكان هو كل مكان، إنه في متناولك، وهو أقرب منك إليك. وها هي تلك التقنيات ذاتها، جعلت للزمن أيضاً مفهومه الأحدث، فهو فوق الرياضيات والفيزياء، وهو يتداخل فيه الليل والنهار، وتتماهى فيه الساعات والدقائق والثواني، فأنت ماثل في كل اللحظات. ولم يعد من المستغرب، أو المستنكر، المثير للدهشة، أن تخرج اللوموند أو الهيرالد تربيون، أو باقي صحف العالم، بالخبر الرئيس “المانشيت” في صفحاتها الأولى، عن أنباء تتردد حول صفقة (فشلت) عن شراء مايكروسوفت لمحرك البحث “ياهو” بأكثر من 45 مليار دولار. هذا هو الحدث اليوم: الخبر “المعرفي”، الذي احتل مكان الخبر السياسي في صحف العالم. والبطل لم يعد صانع السياسة، بل هو صانع المعرفة. والهدف الأقوى لم يعد فتح الأمصار، كما ذكرنا في مكان سابق، ولم يعد الاستحواذ على منابع المواد الخام، بل هو الغزو المعرفي، أو الغزو من أجل تعزيز الاقتصاد الجديد، اقتصاد المعرفة.
وفي هذا السياق، وفي سياق المفهوم الجديد لانتقال المعرفة وتداول المعلومات؛ عمدت الدور الصحفية المهمة إلى إضافة بدائل جديدة إلى منتجها التقليدي (الصحافة الورقية)، فهي تكون On Line، ليس فقط من خلال مواقعها الإلكترونية، وإنما من خلال منتجات أخرى إذاعية مسموعة، ومسموعة مرئية، من خلال الــ Web. ومن خلال الطبعات المجانية. والصحفي الحديث اليوم هو الصحفي الذي يؤدي جميع هذه الأدوار بكفاءة ومهنية عاليتين. والهدف، دائماً، هو الوصول إلى الناس عبر كل الطرق، ومن خلال جميع الوسائل المتاحة.
أين نحن من هذه الثورات وأين نحن من هذه البحار والأنهار المتفاقمة؟!
إن بناء أجيال تؤمن بالحرية والمستقبل، هو التحدي القائم والماثل لقرننا الجديد (الواحد والعشرين)، وهو قرن المعرفة، وقرن حرية المعرفة، وقرن سرعة انتقال المعرفة. فلم يعد من اللازم للدول التي تطمح إلى الرفعة والسؤدد وقوة السلطان، أن تبني الجيوش العسكرية، وأن تتوسع، وأن تقهر التضاريس، وأن تغير ملامح الجغرافيا. لم يعد من اللازم أن تفعل كل ذلك؛ لأن مفهوم القوة، ومكونات القوة، قد تغيرت. فالمعرفة، اليوم، هي القوة، واقتصادات المعرفة تعد أحد أهم مصادر الرفاه والرخاء. ولكي تصل إلى خيرات العالم، ولكي تستحوذ على نصيبك منها، لست في حاجة إلى الانتقال من مكانك، ولست في حاجة إلى اختراق صفوف المحاربين، ولست في حاجة إلى التضحية بالآلاف من أبنائك في ساحات المعارك أو في حلبات الوغى. فبدلاً من تسليح هؤلاء الأبناء بالنار والبارود ليجلبوا لك الغنائم، عليك أن تسلحهم برحيق المعرفة، سلاح العالم الجديد، فبها وحدها سيفتحون الأمصار، وبها وحدها سيتجاوزون إلى النصر، وسيوفرون الرفاه والرخاء.
وللتوضيح، ولتبديد ما ينتابنا دائماً من هلع الحرية؛ فإن الحرية التي نقصد، لا تعني الانفلات أو الرفض أو التمرد أو الفوضى، أو ما تشي به هذه المفهومات في أقاصيها من مخاوف على مستقبل الهوية و”الخاص” والمنجز المكتمل، بل على العكس، فإن الحرية، التي نعني، هي “الثقة”، وهي “الاختيار” بوعي، وهي المساءلة والمقاربة والفحص بانضباط ومسؤولية، لمزيد من إذكاء جذوة المنجز، ولدعم الهوية، ولصقل “الخاص”. فبالحرية، نستطيع أن نلج بقوة مملكة الإبداع، وبالإبداع يمكننا أن نسمو بـ “الخاص”، وأن نرتفع بالهوية، وأن نجعل من المنجز المكتمل أكثر إغراءاً، وأكثر بهاءً، وأكثر صدقية. وليس من العدل تقزيم الحرية، وليس من الحق شيطنتها أو أبلستها، أو جعلها ذات أنياب ومخالب سامة ومميتة، إن معنى ذلك، هو الحكم على الحياة بالجمود والتشرذم. ومعناه، أيضاً، القضاء على العقل بالجحود والركود. وهذه ليست من حكمة الله في خلقه، ولأننا خالفنا تلك الحكمة؛ فقد كتب علينا، سبحانه وتعالى، أن نكون، اليوم، تابعين مقلدين، وعاجزين عن أن نأخذ موقعنا المتقدم بين شعوب الأرض.
هذا ما لدينا من حديث العولمة.. وهذا ما لدينا من شروط قرننا أو عصرنا الجديد.. فهو قرن يختلف عن كل ما سواه من القرون والعصور.. في ملامحه، وفي أدواته، وفي تحدياته. ونقول بأن وسائلنا وطرق تفكيرنا التقليدية لا تجدي معه شيئاً أبداً.. ونحن في تصرفاتنا معه، وممارساتنا حياله، نطبق السياسات القديمة في “كسب الوقت” دون أن نعي أننا في واقع الأمر نخسر الوقت!.. وهو سيأكلنا إن لم نأكله.. وهو سيلتهمنا إن لم نواجهه.. بلغته، وبحساباته، وبمنهجه في مطاردة المستقبل.