د. فهد العرابي الحارثي
تاريخ 30/5/2002م
ملخص الورقة
تناقش هذه الورقة الاهتمام السعودي المستمر بالشأن اللبناني ولاسيما أثناء الحرب الأهلية الشرسة التي اندلعت في العام 1975م، ولم تتوقف رحاها الطاحنة إلا في نهاية العقد ما قبل الماضي أي بعد مرور حوالي أربعة عشر عاماً إثر إقرار وثيقة “الوفاق الوطني” التي تمخض عنها مؤتمر الطائف الذي عقد فوق تراب المملكة العربية السعودية وبرعاية مباشرة من قياداتها.
تؤكد الورقة على مقبولية الدور الوساطي الذي يمكن للسعودية أن تلعبه عند أشقائها العرب، وهي ترى أن ذلك الدور يستمد قوته وفاعليته وتأثيره من الأسس المنهجية للتصور السعودي للعلاقات العربية – العربية، وهو تصور ينبذ التدخل في الشئون الداخلية للآخرين، وينبذ أيضاً الخلافات بين العرب ويناهضها، كما أن الدور السعودي يستمد قوته من المصداقية التي تحظى بها القيادة السعودية عند الآخرين. وكل ذلك مبني على درجة واضحة من الحياد الذي انتهجته القيادة السعودية تجاه ظروف النزاعات وتجاه أطرافها المختلفة.
تؤكد الورقة كذلك على أن القلق السعودي المستمر تجاه الشأن اللبناني أبان الحرب الأهلية لم يكن منتمياً لموجبات جغرافية، أو أنه يعود إلى لحساسيات حدودية معينة، بل هو يعود إلى احتدام مسؤوليات قومية وإلى مشاعر وجدانية خاصة، وهو قبل ذلك وبعده يعود حتماً إلى موقف أخلاقي بين عرفت به القيادة السعودية تجاه ما يشغل محيطها من هموم وكوارث.
وتشير الورقة إلى التطورات التي انتظمت الدور السعودي في التسوية اللبنانية، وهو الدور الذي كانت له قيمته وتأثيره ليس فقط على مستوى الدبلوماسية الخفية أو المستترة بل خصوصاً وتحديداً على مستوى الدبلوماسية العلنية أو الدبلوماسية المنظمة، ومن أهم ما يجسد هذا المستوى من الدبلوماسية المؤتمرات المختلفة التي عقدت في الثمانينيات لمناقشة الأوضاع اللبنانية، للنظر في فداحة آثار الحرب التي إلتهمت كل شيء. وجميع تلك المؤتمرات كانت برعاية سعودية، وهي تتمثل في مشاركات فاعلة كانت محل إشادة مستمرة من القيادات اللبنانية المتوالية إلى أن جاء “مؤتمر الطائف” الذي كان “البديل الأفضل وربما الوحيد للإنقاذ” وهو يعد بمثابة التتويج الموفق للجهود السعدية المتواصلة المتواترة في الطريق الطويلة لإخماد صوت الموت والدمار في بلاد الجمال والحرية.
تشير الورقة كذلك إلى أن خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز كان هو – بامتياز – مهندس السياسة السعودية تجاه لبنان منذ أن اندلعت الحرب عام 1975م وهو مازال يومها ولياً للعهد، وقد استمر وتطور دور القائد السعودي بعد أن تولى مقاليد الحكم خلفاً لأخيه الملك خالد بن عبدالعزيز رحمه الله.
والملك فهد لم يقتصر قلقه تجاه الأوضاع اللبنانية على تعزيز مبادرات السلام الداخلي ودعم فرصه بل امتد قلقه إلى ما بعد الحرب: أي إعمار لبنان وإعادته إلى مكان عليه قبل الحرب.
هذه الورقة لا تزعم أنها التقطت جميع الخيوط في تفاصيل الحالة البنانية أثناء الحرب، وهي لا يمكنها ذلك بأي حال. كما أنها لا تزعم أيضاً أنها أحاطت بكل الجهود السعودية التي بذلت لنزع فتيل الحرب والاقتتال. فهي ليست أكثر من محاولة غير مستقصية غرضها للوقوف بين يدي بعض المحطات الرئيسة في تاريخ العلاقات السعودية اللبنانية في يوم طويل ومظلم وكئيب من أيام الشدة هو يوم الحرب.
والورقة بناء عليه غير منتمية إلى قائمة طويلة من المراجع، فقد اكتفت بالقليل مما يلهم الكاتب حول تلك المحطات الرئيسة. وكاتب الورقة مدين للقليلين الذين رجع إليهم في هذا الصدد، مقيماً حول أفكارهم البنية الأساسية لورقته هذه التي يأمل أن تكون موضوعاً للملاحظات التي يثق بأنها ستكون الأكثر ثراء.
نص ورقة العمل
أشار أحد الباحثين إلى تصورات المملكة العربية السعودية للأسس التي يجب أن تقوم عليها العلاقات العربية – العربية لبلوغ الهدف القومي الأسمى، وهو تضامن العرب وتوحدهم، استعداداً لمواجهة التحديات، وتهيؤاً للتصدي لمخاطر العداوت الإقليمية والدولية التي تلتف حولهم وتطوق أعناقهم، وفي مقدمة هذه المخاطر جميعاً مخاطر الوجود الإسرائيلي: عسكرياً وثقافياً وتنموياً. لقد ذك الباحث أن من الأسس المطلوبة والمتوخاة لقيام علاقات عربية – عربية منتجة ومفيدة وفق الرؤية السعودية: نبذ الخلافات الجانبية التي استنزفت قوى الأمة ومقدراتها، وحل النزاعات بالطرق السلمية، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للآخرين. وفي الحقيقة أن هذه الرؤية للأسس المتوخاه من جل قيام علاقات عربة – عربية مثمرة، يحتمها الواجب والواجب التاريخي، قد أخذت السعودية بها في كل تصرفاتها ومواقفها مما يجري على الساحة العربي التي امتلأ تاريخها المعاصر بالعديد من التوترات والمواجهات والمحاكات والنزاعات التي أفضت إلى تفكك العرب وإلى تعميق فرص ضعفهم وهوانهم على أنفسهم وعلى الناس.. وهذه الرؤية – في حقيقة الأمر – هي التي مكنت السعودية من أن تلعب دوراً ملحوظاً وواضحاً مع كل الأطراف، لتقريب وجهات النظر فيها اختلفوا فيه، ولردم فجوات الاختلاف والتباعد فيما تنازعوا حوله، والسعودية إخلاصاً منها لتوراتها هذه جعلت منها منهجاً ينتظم كل جهودها وتحركاتها الأخوية والدبلوماسية بين أشقائها العرب. وهي لهذا كانت تجد دائماً، أو في أكثر الأوقات، الأذن الصاغية أو التجاوب المطلوب من أشقائها بغض عن النظر عما قد يصيب الموقف في أوقات لاحقة، ولأسباب أخرى خارجه عن الإرادة، من إنتكاسات، أو إنهيارات، أو غير ذلك مما يحفل به قاموس العلاقات العربية – العربية من مفردات توجع العين، وتدمي القلب، وتزيد من تعميق فرص اليأس أو الإحباط. وفي هذا السياق يورد الباحث نفسه قولاً لخادم الحرمين الشريفين مذكراً بإقتتالات العرب وتناحرهم: هذا نصه “لماذا يقاتل العربي أخاه العربي؟ لماذا يراق الدم العربي بيد يجري فيها الدم نفسه؟ لماذا يحرق العربي أرضه ويشتت أهله وينسف داره؟ كيف نقنع دول العالم بعدالة قضيتنا؟ وكيف نطالبها بالوقوف معاً لاسترداد أرضنا وحقوقنا وأوطاننا؟ إذا نحن لم نستطع أن نعدل بين أنفسنا لنصرة قضايانا؟” إن مثل هذه التساؤلات المريرة لم تكن تشغل بال الملك فهد وحده، بل هي كانت دائماً محط رؤية وتبصر من جميع القادة السعوديين الذين تعاقبوا على الحكم منذ أن وحد المغفور له الملك عبدالعزيز أرجاء البلاد، وأقام دعائم الدولة السعودية الحديثة (الثالثة) على الحق والعدل، وعلى استشعار قضايا أمتنا الأساسية، ومتابعة مشكلاتها الحقيقية. ولم يعرف عن السعودية على مختلف التطورات التي مرت بها علاقاتها مع أشقائها العرب أنها أظهرت أو أبطنت ما يخالف أو يتعارض أو يتناقض مع الرؤية السعودية الثابتة لم ينبغي أن تكون عليه الأسس المتينة للعلاقات العربية – العربية التي أشرنا إليها أعلاه. ولعل هذا المستوى من الوضوح في الرؤية، ومن النقاء في التصور السعودي لعلاقات العرب مع العرب كان هو العامل الأول في تهيئة السعودية للدور الذي لعبته دائماً وهي أنها ظلت تحظى بالقبول الدائم المتواتر من لدن جميع الأطراف للقيام بدور الوسيط المطلوب والمرغوب والمرحب به للتدخل في حل النزاعات العربية. أما العامل الثاني لهذه المقبولية – كما يذكر الباحث أيضاً – فهو: “المصداقية التي يتطلبها دور الوساطة”، فالمصداقية هي من أهم الشروط الموضوعية لقبول القيام بدور الوساطة، فالسعودية كما هو معلوم تسعى بسياستها الخارجية المعتدلة الهادئة إلى جعل نفسها مقبولة من كل الأطراف في أي نزاع عربي، ويتم ذلك عبر تحسين علاقاتها مع أطراف النزاع، وعبر اتخاذها مواقف حيادية من المتنازعين، وعبر أمر آخر وهو عدم زيادة حجم التدخل عن مستوى الوسيط الذي يحاول أو يتوخى الحق والعدل بين جميع الأطراف.
إنني أحس بأن هذه المقدمة ضرورية لما سنتطرق إليه في السطور اللاحقة عن الدور السعودي في إنقاذ لبنان الشقيق مما أصابه خلال حوالي أربعة عشر عاماً من اضطرا بات واقتتالات وتدميرات أتت على الأخضر اليابس في بلد الجمال والحب والحرية، إن الحرب الأهلية اللبنانية في عبارة: قد أعادت لبنان إلى الوراء سنوات طويلة، ففقد توازنه، وأضاع الكثير من حقوقه المكتسبة التي لم نع ندري كيف يمكن له أن يستردها.
والحرب اللبنانية الأهلية هي أطول حرب أهلية عرفها العرب في تاريخهم المعاصر، وهي الأشرس والأعقد من أي حرب أخرى غيرها. ولذلك فقد كانت تجربة السعودية معها تجربة فريدة، وعندما يأتي ذكر الدور السعودية في حرب لبنان المريرة يتذكر الناس على الفور “اتفاق الطائف” ربما لأن ذلك الاتفاق هو الأقرب من حيث تاريخ وقوعه، وربما – وهذا هو الأهم – لأنه هو وحده الذي أشاع إرهاصات أفول شبح الموت والتدمير، بل لقد كان هو البداية في وضع اللبنانية المنقضية لم يبدأ في الطائف، بل هو موجود قبل الطائف وفي غير الطائف وهنا لابد للتاريخ أن يقول كلمته المنصفة.
منذ بداية الحرب اللبنانية في العام 1975م لم تفتأ السعودية توالي مساعيها الكثيرة لوقف الحرب اللبنانية وتسوية النزاع، بل أن كاتباً عربياً – مثل غيره من كتاب آخرين – قد أشاد بحكمة السعودية في الموقف الذي اتخذته مما يجري في لبنان فذكر أن السعودية: “سلكت أسلوباً في التحرك جنبها، من جهة أولى، خطر التورط في الرمال المتحركة، وحافظ، من جهة أخرى، على مصداقيتها كوسيط لا يمكن الاستغناء عن مبادراته التوفيقية” وكما هو ديدن السعودية في تعاملها مع الخلافات العربية – العربية فقد تعاملت بالمعيار نفسه مع النزاعات أو الحروب الأهلية، ومنها الحرب اللبنانية. وإذا كانت بعض الجهود الديبلوماسية بحكم ظروفها الخاصة قد لا تظهر دائماً لوسائل الإعلام وللراصدين من المراقبين، فإن عدداً من الباحثين يشيرون بوضوح إلى محطات رئيسية في التحركات السعودية على الساحة اللبنانية، وهي تحركات كان لباد لها أن تظهر دائماً لوسائل الإعلام وللراصدين من المراقبين، فإن عدداً من الباحثين ييشيرون بوضوح إلى محطات رئيسية في التحركات السعودية على الساحة اللبنانية، وهي تحركات كان لابد لها أن تظهر للناس وللملاحظين من المهتمين بالشأن اللبناني تخصيصاً والشأن العربي عموماً، ومن تلك المحطات:
1) مؤتمر القمة السداسي الذي عقد في الرياض عام 1976م وقد نتج عن ذلك المؤتمر “خطة واضحة لإنهاء الحرب اللبنانية.. وقد أدت تلك القمة ولفترة محدودة إلى رأب الصدع الذي أصاب تكتل أكتوبر، وأدت إلى استقرار الوضع الإقليمي العربي والداخلي اللبناني، لذا اعتبر كاتب أمريك إن قمة الرياض كانت انتصاراً عظيماً للسعودية فقد كانت محصلة ثمانية عشر شهراً من الجهود الدبلوماسية السعودية أن القتال في لبنان انته وأن محوراً سعودياً – مصرياً – سورياً تشكل”.
2) مؤتمر الحوار الوطني الأول في جنيف في الفترة من 31أكتوبر إلى 4نوفمبر 1983م، وقد قال الرئيس اللبناني في تلك الفترة أمين الجميل في إحدى جلسات المؤتمر نفسه عن دور الملك فهد الكبير في الدعوة لهذا المؤتمر ورعايته له، قال: “نكرر شكرنا للملك فهد راعي هذا المؤتمر، ونأمل أن نكون عند حسن ظنه” ويقول وديع حداد عن المشاركة السعودية في المؤتمر: أن السعودية لعبت رسمياً وداخل المؤتمر دور المراقب الذي لن يكون عائقاً أمام أي شيء من مصلحة لبنان أن يتوصل إليه المتؤمر”.
3) مؤتمر الحوار الوطني الثاني في لوزان في الفترة من 12 مارس إلى 20 مارس 1948م، وقد نوه الرئيس اللبناني في جلسة الافتتاح بالجهود التي بذلها الملك فهد بن عبدالعزيز، وبما كان للسعودية من دور فاعل وبناء إزاء لبنان في محنته ومعايشة أحداثه وآلامه.
قبل لقاء الطائف إذن كانت السعودية موجودة دائماً إلى جانب الأشقاء اللبنانيين في محنتهم التي طالت واستطالت حتى خفت بريق الأمل، وحتى وهنت كل دواعيه. والدور السعودي كان ملاحظاً عبر مساع دبلوماسية متفرقة ومتعددة ومستمرة لدى كل أطراف النزاع، وهو جاء في شكل رعاية مؤتمرات كما ألمحنا آنفاً أو في شكل لقاءات ورسائل دبلوماسية عبر قنوات متعددة وكلها كانت موضوعاً للمراقبين والملاحظين في وسائل الإعلام المختلفة وعلى الرغم من ذلك، ونظراً للتعقيد الشديد الذي يصور المسألة اللبنانية، ونظراً أيضاً لتنوع التورطات العربية فيها فقد كان السعودية تتلقى بعض الاتهامات أو الانتقادات من أطراف لها مصالحها في النزاع وكان الهدف هو التشكيك في الموقف السعودي من الشعب اللبناني الشقيق، وقد عبر عن ذلك مرة الملك فهد نفسه عندما قال مخاطباً النواب اللبنانيين في جدة “طبعاً نسمع من وقت لآخر من ينتقد السعودية بشكل ليس مبنياً على أشياء صحيحة.. ولكن نقول أنه لو تم الإطلاع على الحقائق لما قيل أي نوع من الإساءة في حق السعودية” ثم يضيف حفظه الله: “لقد جبلنا على أن تكون علاقتنا وصداقتنا مع لبنان علاقة محبة وأخوة”.
ونعود فنقول لولا ما تتمتع به السعودية من ثقة عند اللبنانيين مبنية على مصداقيتها وحياديتها وتقدير حجم غيرتها تجاه ما يجري من مآس فوق تراب لبنان لما استطاع أن تنجح في تحقيق ما تحقق في الطائف، لكن اللبنانيين بمختلف طوائفهم ونزعاتهم وانتماءاتهم كانوا يدركون أن لا مصلحة للسعودية في الحرب اللبنانية، بل أن المصلحة التي تسعى وراءها السعودية هي إخماد أصوات البنادق والمدافع التي دمرت لبنان وأعاقته عن مواصلة مشواره في تنميته الداخلية، وفي لعب الدور المنتظر منه في محيطه العربي، وفي مقاومة الاحتلال الإسرائيلي لأراضيه في الجنوب المغتصب، أو الذي كان مغتصباً.
لقد عقد مؤتمر الطائف نتيجة لأعمال اللجنة العربية الثلاثية العليا (الملك فهد والملك الحسن الثاني والرئيس ابن جديد) وهي اللجنة التي تشكلت في قمة الدار البيضاء المنعقدة في مايو 1989م وقد أعطيت اللجنة الصلاحيات الكاملة لتحقيق الأهداف التي أقرها المؤتمر لحل الأزمة اللبنانية وتقوم اللجنة المذكورة بالاتصالات والإجراءات اللازمة، لدعوة أعضاء مجلس النواب لمناقشة وثيقة الإصلاحات السياسية، وإجراء الانتخابات الخاصة برئاسة الجمهورية، وتشكيل حكومة الوفاق الوطني. وقد قام الملك فهد بالتنسيق مع أخويه عضوي اللجنة العليا في كل ما يتطلب التنسيق ثم عقد مؤتمر الطائف برعاية سعودية كاملة، وفوق أراضيها، في الفترة من 30 سبتمبر إلى 22 أكتوبر 1989م وحضره وزراء خارجية الدول الثلاث الأعضاء في اللجنة إلى جانب الأخضر الإبراهيمي رئيس اللجنة الأمنية. وظل الملك فهد شخصياً قريباً مما يجري في أروقة المؤتمر الذي تحقق فيه ما لم يتحقق في مؤتمرات الحوار اللبناني (في جنيف ولوزان) إذ تم الاتفاق حول عدد من الإصلاحات في النظام السياسي اللبناني. ويقول الرئيس اللبناني السابق إلياس الهراوي: “إن المملكة تولت عملياً معظم أعمال اللجنة الثلاثية لأنها كانت الأقرب إلى لبنان من مختلف النواحي، فيما المغرب والجزائر أقرب في تفاعلها مع قضايا المغرب العربي أو أفريقياً”.
لقد كان البيان الذي أصدرته اللجنة الثلاثية العليا في سبتمبر 1989م دور في تخفيف حدة التوتر على الساحة اللبنانية، وفي تهيئة المناخات المناسبة لعقد مؤتمر الطائف، وكان مما تضمنه البيان المذكور، وقف إطلاق النار بشكل فوري، وأوكل إلى اللجنة الأمنية مهمة مراقبة السفن التي تحمل أسلحة إلى أي طرف كان، وفك الحصار البحري، وفتح مطار بيروت، ووقف الحملات الإعلامية، ودعوة جميع الدول التي أيدت اللجنة الثلاثية في مهمتها للعمل على وقف أي إمداد بالسلاح لأي كان في لبنان.
وقد قال الملك فهد للمؤتمرين في الطائف: “إن السعودية تعتز باستضافتكم وتأمل أن يشكل لقاؤكم هذا نقطة الانطلاق في إعادة الحياة الطبيعية والمستقرة إلى ربوع بلدكم الشقيق، وأملنا في أن يتحقق على أيديكم ما نصبو إليه جميعاً وهو إعادة السلام والوئام إلى لبنان ليبقى دوماً عربي الهوية والإنتماء سيداً حراً مستقبلاً ومستقراً” ومنذ اليوم الأول في مؤتمر المصالحة الوطنية في الطائف أطلقت السعودية شعاراً للمؤتمر هو “الفشل ممنوع” ولقد أصبح هذا الشعار هدفاً كتب له أن يتحقق فيما بعد.
نعم!.. فبعد أيام طويلة من النقاش أضحى الهدف إنجازاً تاريخياً كبيراً بكل المقاييس وقد قال عنه الملك فهد بأنه يعتبر “من أعظم الإنجازات التي حققها اللبنانيون منذ بداية عهد الاستقلال، لأنه القاعدة السليمة للتعايش المشترك بين جميع الطوائف وهو ما كان يتطلع إليه اللبنانيون منذ سنوات طويلة”.
لقد أقر النواب الذين اجتمعوا في الطائف: وثيقة الوفاق الوطني اللبناني المعروفة باسم “اتفاق الطائف” وهي أكدت هوية لبنان العربية، وجاءت بعدد من الإصلاحات في النظام السياسي، وهكذا انطلقت مسيرة السلام الكبرى في لبنان، فتم انتخاب رئيس جديد للدولة، وتم تشكيل حكومة شرعية واحدة أنهت ظاهرت التمرد، وطوت عصر الحكومتين وعادت المؤسسات العسكرية جيشاً واحداً بإمرة قيادة واحدة، فانهارت الحواجز بين اللبنانيين وأزيلت المعابر بين المناطق وعادت إلى الشعب وحدته التي طالما افتقدها المخلصون.
واتفاق الطائف إذن ليس اتفاقاً لوقف القتال فحسب، ولكنه صيغة وطنية بإعادة بناء الدولة، والوطن، والشعب، والمؤسسات.
إن وثيقة وفاق الطائف هي كما وصفها سياسي لبناني “صيغة لا بديل لها لإنقاذ”.
أما أحد الصحفيين المرموقين في لبنان فقد وصف لقاء الطائف بقوله: “أنها من المرات القليلة التي تقوم فيها قيادة بلد بكاملها في التعاطي مع موضوع بهدف إيجاد حل متوازن له، هذا فضلاً عن أن المملكة العربية السعودية لم تكن مرد بلد مضيف وإنما كانت إذا جاز التوصيف، وعلى مدى شهر كامل، بمثابة مستشفى أخذ على عاقته نقل بلد بكامله إلى هذا المستشفى الذي خصص غرفة عناية فائقة، وتولى العلاج طاقم متخصص، يجمع إلى القدرة على العلاج مشاعر الحب للمريض الراقد في هذا المستشفى. ويضيف الكاتب: ” ونقول ذلك لنؤكد ما معناه أن المملكة لم تكن مجرد مضيفة مؤتمر، وإنما كانت مهمومة ومهتمة في الوقت نفسه، مهمومة بالحال التي أنتهى إليها بلد أحبه أبناء الملك عبدالعزيز وهم في طريقهم إلى تسلم المسؤولية، واستمروا على حبهم له، بعدما باتوا يشغلون مواقع في مفاصل رئيسة في الدولة” ثم يقول: “ولبنان ليس على حدود السعودية لكي يقال أن لهذه العاطفة موجبات بدافع المسايرة من أجل احتواء خلاف حدودي” ثم يستطرد: “وفي تقديرنا أيضاً أنه لو كن المؤتمر الذي استضافته المملكة لم ينعقد فيها وإنما في بلد آخر، لما كان للحرب أن تتوقف، ولكانت ستستمر ويتساقط الضحايا بالعشرات يومياً، ويأتي التدمير على ما تبقى من معالم البنيان في البلد”.
وما يهم في شهادة هذا الكاتب هو تأكيده على محبة السعوديين للبنان واللبنانيين، ولم يكن من موجبات هذه المحبة جوار حدودي له حساسياته مع لبنان، بل إن من موجباتها نزعة وجدانية محضة، وقبل ذلك وبعه مصلحه قومية تقوم على مشاعر الإخاء والمصير الواحد المشترك. ففكرة اقتتال العرب فيما بينهم هي فكرة مرفوضة بكل المقاييس في دفتر أخلاق السعوديين، وهذا ما أكده الملك فهد في العبارة التي أوردناها من مكن سابق من هذه الورقة.
ويحسن أن نورد هنا مقطعاً من كلمة الحسيني بين يدي الملك فهد بحضور النواب اللبنانيين، وهو مقطع ذو فائدة ودلالة.. يقول الحسيني: لقد خطا العرب الخطوة الأولى فاتخذ القرار العربي، وكان الشك كبيراً في أن تليها الخطوة الثانية، ثم خطوتم (يعني الملك فهد) الخطوة الثانية فأوقفتم إطلاق النار، وكان الشك كبيراً في أن تتم الخطوة الثالثة، ثم خطوتم الخطوة الثالثة فدعوتم نواب الشعب اللبناني إلى الاجتماع فكان الشك كبيراً في أن تحدث الخطوة الرابعة، ثم خطونا (يعني النواب اللبنانيين) الخطوة الرابعة فلبينا النداء، وكان الشك كبيراً في أن ننجز الخطوة الخامسة، ثم خطونا الخطوة الخامسة فأكدنا ميثاق العيش المشترك، ووجدنا صيغة الدولة الواحدة” ففي هذا المقطع من خطاب الحسيني أشار إلى القواعد التي قام عليها سلام لبنان: الإرادة العربية، الإرادة اللبنانية، الرعاية الحكيمة المخلصة للحوار بين اللبنانيين في الطائف.
ويقول أحد المهتمين اللبنانيين: “أن اتفاق الطائف كان أكثر تقدماً من الدستور الصادر في العام 1926م الذي وضعت معظم بنوده في عهد الانتداب، فالطائف أوسع مشاركة من الدستور القديم.. إننا نناقش دستور الطائف من منطلق الثوابت الوطنية للكيان اللبناني، ومهما تعرضت له هذه الثوابت من تفسيرات شتى غير أن تاريخ لبنان وجغرافيته وخصائص شعبه وتعدد رسالات السماء التي آمن بها شعبه تجعل هذه الوطنية الركيزة لأي دستور” ثم يضيف: “واجتهد لأقول أن أبرز هذه الثوابت أن الشعب اللبناني متفق على الحرية والعدالة في إطار النظام الديمقراطي، ومتفق الحرية والعدالة في إطار النظام الديمقراطي، ومتفق على عروبة لبنان المستقل، ومتفق على رفض تذويب الكيان الوطني أو تقسيمه، ومتفق على العيش الحر المشترك لضمان الوحدة الوطنية، ومتفق على أوسع مشاركة شعبية ديمقراطية في القرار العام”.
وهكذا وجد اللبنانيون أنفسهم بعد دوامة الحرب الطاحنة التي استمرت لحوالي أربعة عشر عاماً، وجدوا أنفسهم في الوفاق الوطني، وفي الدستور الجديد، وفي الحوار العاقل الذي ألغى الجنون واحتضن بين ذراعيه وفي جوانحه لبنان الجديد الناهض من نحت الأنقاض، القادم من عمق الجرح، ومن عواصف البارود.
والملك فهد ومملكته.. كانوا دائماً هنا فالمهمة لم تنته بانفضاض مؤتمر الطائف على ما تحققه له من نتائج إيجابية، بل مازال للمهمة بقية ضرورية وأساسية ولقد قالها الملك فهد للبنانيين وهم في ضيافته، قال: “نحن لن نتخلى عن لبنان، وسوف نكون دائماً تحت إمرة نواب لبنان، وقادة لبنان، وشعب لبنان بما يعود على لبنان بالخير والبركة، لأن الوضع – كما قال الملك فهد – ليس مجرد مهمة أديناها وانتهينا منها” ثم أضاف: “ولسوف نبذل ما نستطيع من مجهود للمساهمة في بناء لبنان، لأن من يعرف حجم الدمار والخراب الذي حصل في لبنان يدرك أن الشعب اللبناني لا يستطيع وحده تعمير لبنان، ولسوف نساهم بما نستطيع. كما أنني مقتنع بأن الدول المحبة للسلام في أوربا وأمريكا أو في أي مكان آخر من المؤكد أنها سوف تساهم بما تستطيع من الأمور الخيرة حتى يعود لبنان كما كان وأفضل”.
وبعدها تحركت المملكة العربية السعودية من أجل تأسيس صندوق الدعم والمساعدة للبنان حين أعلن الأمير سعود الفيصل عن بداية عمل هذا الصندوق برأسمال أولي قدره مليار دولار، وجاء هذا الإعلان ضمن جولة أوربية قامت بها اللجنة العليا المكونة من السعودية والجزائر والمغرب لجلب المساعدات الأوروبية للصندوق.
واليوم وبعد مضي أكثر من ثلاث عشر عاماً على الوفاق الوطني ما الذي ينتظره العرب من لبنان واللبنانيين؟! أنهم – وفي مقدمتهم السعودية – ينتظرون من بلد الحب أن يكون مرتعاً خصباً للحب، وينتظرون من وطن الحرية أن يكون فضاء رحباً للحرية، وبغير الحب وبغير الحرية لا يمكن للبنان أن يستعيد عافيته.
أننا في السعودية، قيادة وشعباً، ننظر إلى اليقظة اللبنانية بكثير من الفخر، لأننا نعتبر أنفسنا شركاء في إيقاد الشرارة الأولى في تلك اليقظة، وليكن ذلك في مؤتمر الطائف، وليكن في غيره من المؤتمرات واللقاءات. ولقد عبر عن بذلك الملك فهد صراحة في لقائه بالنواب اللبنانيين بعد مؤتمر الطائف إذ قال: “أننا نعتبر ما حدث فخراً للمملكة العربية السعودية، وثقة من أحبائنا في لبنان عموماً لأنهم اختاروا أن تكون إقامتهم ومناقشتهم في السعودية، فأكرمتمونا بهذا الأمر، وطوقتمونا بطوق كبير جداً، بحيث لا نعرف كيف نستطيع أن نرد هذا الكرم اللبناني والثقة اللبنانية بالنسبة لبلدهم الثاني المملكة العربية السعودية.. نأمل أن يوفقنا ربنا لكي نستطيع أن نعمل ما يمكن عمله بالنسبة للبنان”.
نعم .. لقد أكرمنا اللبنانيون بأن صنعوا سلامهم فوق أرضنا .. أرض السلام.. أرض الإسلام.
والسلام عليكم ورحم الله وبركاته.