ورقة مقدمة إلى المنتدى الإعلامي السنوي الرابع للجمعية السعودية للإعلام والاتصال المنعقد بجامعة الملك سعود بالرياض في 8/4/2007م
تحت رعاية صاحب السمو الملكي الأمير/ نايف بن عبدالعزيز وزير الداخلية
دفهد العرابي الحارثي
في مرحلة توحيد البلاد، ومرحلة بناء مؤسسات الدولة، ثم، بعد ذلك بقليل، مرحلة إشادة البنى الأساسية للتنمية الشاملة، كان الإعلام السعودي (الصحافة على وجه الخصوص) في حاجة إلى “الانضباط”، أو الانتظام في الأنساق الجديدة للمسؤوليات الاجتماعية والوطنية، فالبناء ما يزال هشاً، والتجربة ما برحت في البدايات، والبدايات ليست في مأمن من الإزلاق أو التعثر.
كان الإعلام السعودي في حاجة إلى الانسجام مع الإيقاع المتسارع للنمو، فالبلاد تنهض من تحت ركام كثير من الغبار والأتربة، والملامح ما برحت شاحبة، واللهاث الشديد يشي بحالات من العطش، أو ربما فقدان الوعي أحياناً.
الانتقال من حالات التشظي والتشرذم إلى حالات التقارب والالتئام والتوحد لم يكن ذلك المشروع السهل حتى لو تحقق بالفعل سياسياً فالثقافي منه يحتاج إلى مدى أطول، لاسيما إذا أدركنا مدى ثراء التنوع الديموغرافي – الأنثروبولوجي التي تتمتع به الأقاليم المتوحدة.
أما النفط، والثروة الجديدة، فقد جاءت تحمل معها تحدياتها التي ليس من أهونها أن يفقد المجتمع الناهض المتوثب توازنه في المعادلة التقليدية البسيطة: الأصالة والمعاصرة، مع الأخذ في الاعتبار وضع السعوديين الخاص من حيث علاقتهم المباشرة بالإسلام وبمقدساته.
ولقد أسست تلك الأوضاع، نتيجة للحاجة أو لمجرد التواتر، لنشوء علاقة ملتبسة أو غامضة بين الإعلام الأهلي والدولة؟ فمن الذي يتبع الآخر؟ هل الإعلام الأهلي يتبع الدولة؟!، أو أنه ليس هناك من تبعية.. فلعل الوضع هنا هو عبارة عن مستوى من التفاهم، أو “التنسيق”، أو سموه ما شئتم، لضمان سلامة الوصول إلى المرافئ الجميلة للمستقبل.
كانت حدود الدولة تتماهى، هكذا، مع حدود الإعلام الأهلي، وكثيراً، ما يتم أختراق تلك الحدود من الطرفين، والحالة دائماً هي الحالة السعودية المعروفة التي تداوي جراحها بيسر وسهولة ليعود، كل شيء إلى مكانه الصحيح.
صدرت في وقت لاحق تشريعات تهدف إلى تنظيم نشاط النشر والإنتاج الفكري والثقافي والفني، وتهدف أيضاً إلى “تنظيم” العلاقة بين الصحافة والدولة (نظام المطبوعات والنشر صدر لأول مرة في العام 1949، وأعيد النظر فيه عدة مرات كان منها واحدة في العام 1958 ثم أخرى في العام 1982 ثم أخيراً في العام 2001)، بعض الأنظمة والتشريعات التي تهدف إلى جعل الصحافة عملاً مؤسسياً مقنناً، أي بمرجعيات تنظيمية وقانونية واضحة، ومن تلك الأنظمة نظام المؤسسات الصحفية (نقل الملكية من الأفراد إلى المؤسسات وقد صدر لأول مرة في العام 1383هـ/ 1964م)
كما أنشئت لجنة تخطيط “السياسة الإعلامية” في العام 1967 ثم توقفت لمدة ثمانية أعوام، لينشأ فيما بعد المجلس الأعلى للإعلام الذي أعيد تشكيله في العام 1981 برئاسة سمو وزير الداخلية الأمير نايف بن عبدالعزيز، والمجلس عبارة عن هيئة تخطيطية إشرافية، ومن مهماته وضع السياسات الإعلامية، ومتابعة تنفيذها وتطويرها (ألغي المجلس في العام 1424هـ) وقد صدرت عن المجلس “السياسة الإعلامية” للمملكة في العام 1402هـ وتتكون من ثلاثين مادة تتناول الجوانب الفكرية والثقافية والاجتماعية والسياسية لنشاط الإعلام.
مع التأكيد في كل الحالات على أن المؤسسات الصحفية هي إعلام (أهلي) استثماراً وإدارة وأداءً.
لم يكن تاريخ الصحافة السعودية، على الرغم من صدور تلك التشريعات، يخلو من الأزمات .. نقصد”أزمات الإعلام” لان العلاقة الملتبسة بين الدولة والصحافة ظلت قائمة، إما لعدم كفاية الأنظمة والتشريعات ، أو لأن الدولة ما تزال قلقة على مشروعها التنموي الكبير، أو لأنها ظلت تفضل أن تتعامل مع شئون مواطنيها وفق قيم “العائلة” العربية، فهي “الراعي” وهي المرشد ، وهي المقوم، وهي الموجه، وهي القلقة على صورة المستقبل. ولذا فقد عُرف، في دول العالم الثالث جميعها، أن الدولة هي الدولة، فما من أحد، في الإعلام، ينطق عن هوى، وإنما ذلك، دائماً، هو الوحي الذي يوحى .. وكلنا نذكر ما كان يسببه هذا الوضع من حرج مستمر، على مستوى العلاقات مع دول شقيقة، وأخرى صديقة، إلى أن وجدت الدولة نفسها في موقع لا نحسب أنها كانت الحريصة على أن تكون فيه، وهو موقع المبرر لما يكتب، أو المعتذر عنه (خارجياً)، بالإضافة إلى موقع “الرقيب” والحارس، والمتحمَّل لأوزار الصحفيين، وما أكثرها من أوزار !!
الأنظمة والتشريعات والضوابط التي وضعت للنشر لم تفلح، إذن، في إلغاء التماهي الماثل بين “الحكومي” و “الأهلي” في الإعلام، ما جعل الإعلام السعودي، في بعض المحطات التاريخية، يتلبس حالة المشلول أو العاجز، أو الشاهد الأعمى الذي لا يرى شيئاً، ونحن جميعاً نتذكر ما حدث لنا صبيحة الثاني من أغسطس، اليوم الذي اجتاح فيه صدام حسين العراق في العام 1990م، فلو كانت السماء مغلقة من حولنا، ولو كانت الهبوب لا تهب تجاهنا، لما علمنا أصلاً أن عدونا المشؤوم أصبح بالضبط على حدودنا، ولقد استغرق هذا الوضع ، أي حالة اللا إعلام، أكثر من يومين أو ثلاثة. قد تكون فجائية الحدث، وكارثيته، هي التي شلت الجميع، فنحن لم يمر بنا قط مثله، ونحن لم نتوقع بأي حال أن يحصل، ولعل محاولة البحث السريع، العاجل، عن مخرج من المأزق الذي وضع صدام حسين العرب فيه، هي التي أرجأت تناول الحدث في إعلامنا من قريب أو من بعيد. والإعلام، على غير ما هو مفروض، ظل أسيراً لهذا الموقف الرسمي. فحسابات الموقف الرسمي اقتضت الهدوء والتروي، وهي استوجبت التركيز على مهمة واحدة، وهي البحث عن “الحكمة” بين ركام هائل من الجنون والرعونة .. ولكن هل كان ينبغي أن يغيب، حتى الإعلام الأهلي، عن رواية ما يجري على الحدود؟ نحسب أن الجواب، بالمقاييس المعمول بها في تلك الأيام، هو نعم!.. ينبغي أن يغيب. فالعلاقة بين الدولة والإعلام الأهلي ظلت علاقة ملتبسة كما قلنا، شئنا ذلك أم أبينا، رضينا أو لم نرض، أردنا أو لم نرد، وحتى لو قلنا بخلاف ذلك فمن سيصدقنا ممن حولنا؟ الموقف كان من الحساسية، والهول، والكارثية، بحيث لا يحتمل أي خطأ في التقديرات، أو التحليلات، أو ترتيب المواقف. وحلّ أزمة الاحتلال كان أهم بكثير من هواجس الإعلاميين، أو تخرصاتهم، أو جوعهم للأخبار، أو عطشهم للمعلومات.
اجتياح صدام للكويت كان “أزمة” .. وأي أزمة؟!.. كان هو أزمة السياسة، وهو أزمة التاريخ المعاصر كله .. و طبعاً أزمة الإعلام.. عندنا على وجه الخصوص.
لم يكن لما حدث يومها علاقة بمدى كفاءة الإعلام السعودي، لأن ما رأيناه، بعد انطلاق العجلة نحو التحرير، أكد أن الإعلام السعودي، ولا سيما الأهلي منه (الصحافة)، كان بالفعل على مستوى المسؤولية، والتوقعات. بل نستطيع القول بأنه قد أبلى في تلك المعركة بمستوى لم يطاوله فيه أي إعلام آخر في المنطقة. بما في ذلك الإعلام الكويتي نفسه في لندن أو غيرها.
حرب التحرير، في العام التالي، صاحبتها، أو زامنتها، ظاهرة إعلامية عجيبة أسمها CNN التي قلبت كل الموازين، وأعادت النظر في الأعراف الإعلامية كلها في المنطقة. كان الإعلاميون الخليجيون، وربما العرب كلهم، يتذرعون في عدم تغطياتهم للحروب، في فيتنام أو أمريكا اللاتينية مثلاً، أن تلك البلدان بعيدة عنهم، أو أنها لا تعنيهم، ولقد كان موقفهم بالغ الصعوبة وهم يشاهدون مراسلي CNN الأمريكية، تحت القصف، في نقل حيّ مباشر للحرب في الكويت والبصرة وبغداد، لإخراج جيوش الغزو، ومن ثم تدميرها بالكامل على الحدود.
حرب تحرير الكويت، من جهة أخرى، أوجدت على التراب السعودي آلاف الصحفيين والإعلاميين والقنوات الفضائية من مختلف أنحاء العالم، وكانت المنطقة الشرقية والرياض ساحتين مفتوحتين لنشاطهم الذي لم ينقطع لحظة واحدة. طيلة سنة الاستعداد للتحرير.
حرب تحرير الكويت تزامنت مع ظاهرة أخرى وهي ظهور الصحون الفضائية، وقد بلغت أقيام تلك الصحون أرقاماً خيالية، فالكل يريد أن يشاهد الحرب، أو يرى تفاعلاتها، المنذرة المبشرة، وبطرق جديدة غير مألوفة في السابق، سرعة وشموولاً.
النقل “الحيّ المباشر” للحرب كان النقلة العجيبة التي يحتاجها الإعلام في تلك الأيام لكي يتحدث بالفعل عن مكاسب جديدة في أدواته ووسائله، وبالتالي على مستوى الجماهير التي يريد أن يصل إليها. قد هزّ هذا الحدث الإعلامي، بعنف شديد، خيال الإعلاميين العرب والسعوديين، فإذا أضيف إلى ذلك أن هذا الحدث الإعلامي كان الإيذان الفعلي بتدشين عصر الفضائيات، أو عصر السماوات التي تمطر صوراً وكلاماً وأفكاراً، فإن هذا يعني ترسخ عصر تدفق المعلومات الذي لا يمكن التحكم فيه. ولم تكن الشبكة العنكبوتية “الإنترنت” في منأى عن هذا السباق الذي انقض من كل الاتجاهات ففي الوقت الذي أدهشنا فيه هذه الأحداث الإعلامية المعلوماتية، فهي أخافتنا إلى حدّ كبير، وهي وضعتنا أمام تحد جديد أصبح من غير الممكن التعامل معه بالوسائل التقليدية، فهو يقتحمنا دون استئذان، وهو يعلمنا ما لانريد أن نتعلم، وهو يجرنا إلى عوالم لم يكن في بالنا أننا سنبلغها.
وفي المجمل فقد كانت تلك التجارب والأحداث مفيدة للإعلام السعودي، فهو تعلم، في خضم هذه الأحداث والظواهر الجديدة، خطواته الأولى في التعامل مع الأزمات.
هل نقول: ذهبت “أزمة الإعلام” وجاء “إعلام الأزمات”.
يمكننا أن نقول شيئاً من هذا.
ونحسب أنه، منذ ذلك اليوم، وربما أيضاً لظروف التطور العام الذي طال المفهومات والأنساق، عندنا وعند غيرنا، أخذت العلاقة بين الإعلام الأهلي والدولة تبدو أقل التباساً أو غموضاً من ذي قبل، ولم يعد هناك كثيرون ينظرون إلى رأي الكاتب أو الصحيفة على أنه، بالضرورة، هو رأي الدولة، أو أنه موحى منها، أو أنه تعبير عن موقفها، فهناك أحياناً تطابق، وهناك أحياناً اختلاف. أو على الأقل بعض اختلاف، وأصبح المناخ العام نفسه أكثر كفاءة، وأكثر قدرة على فهم النسق الجديد في أداء الإعلام الأهلي، وربما لهذه الأسباب أذنت الدولة، فيما بعد، بإعادة النظر في النظامين: نظام المطبوعات والنشر (صدر للمرة الأخيرة في العام 2001)، ثم نظام المؤسسات الصحفية (صدر للمرة الثانية والأخيرة في العام 2002) بعد دراسة وبحث ومناقشة استمرت، في مجلس الشورى السعودي لعدة شهور. ومن أهم ما ظهر في هذين النظامين في صيغتهما الجديدة: مزيد من التوضيح للمبهم، ومزيد من التحديد للعام، ومن ذلك مثلاً المواد المتعلقة بحرية التعبير، والتسهيل في الحصول على تراخيص النشر، واختيار أو تعيين رؤساء التحرير ومديري العموم في المؤسسات الصحفية، وتنظيم محاكم الفصل في المنازعات المتعلقة بالنشر وغير ذلك.
وربما لتلك الأسباب المتصلة بتطور المفهومات والأنساق أيضاً خرج من مجلس الشورى في العام 1425هـ 2005م القرار بالإسراع في تنفيذ قرار مجلس الوزراء الصادر في العام السابق (2004) القاضي بتحويل بعض مؤسسات الإعلام الرسمي نفسه، مثل التلفزيون والإذاعة، إلى مؤسسة عامة، وكذلك وكالة الأنباء السعودية، بحيث تكون خاضعة لإجراءات وتقاليد إدارية غير تلك التي تحكم أجهزة الدولة الأخرى، وذلك بغرض أن تنال هامشاً أرحب في الحركة والإبداع، وبالتالي ما يتبع ذلك من أمور الصرف والتوظيف والتدريب والإنتاج.
وقبل أحداث 11 سبتمبر بعام واحد، وتزامناً مع الظروف الجديدة التي يمر بها الإعلام في المملكة، وفي المنطقة كلها أنشئت في البلاد أول مؤسسة صحفية جديدة، وذلك، بعد مرور أكثر من ثلاثين عام منذ نشوء آخر المؤسسات الصحفية، والمقصود هنا مؤسسة عسير للصحافة والنشر، التي صدرت عنها صحيفة “الوطن” في العام 2000م وهي الصحيفة التي استغلت أحدث ما تمخض عنه عالم اليوم من التقنيات، وأقصى ما وصل إليه زهو الإعلام السعودي من قوة وتأثير، وكان لحضور هذه الصحيفة، على مستوى الشكل أو المضمون، ما تحول في وقت لاحق إلى أن يكون مثاراً للمحاكاة أو الاحتذاء أو التلقيد، ابتداء من التقاليد التقليدية للصفحة الأولى، مروراً بالمفهوم الصحفي نفسه، وبرسالة الصحيفة، وإنتهاء بطرق العرض وأساليبه ولغته. وقد واجهت الصحيفة تحديات مختلفة، لكنها اجتازتها بنجاح، وكان من الطبيعي أن تحدث تلك التحديات لأنها الطريق الصحيح، تاريخياً وموضوعياً، للانطلاق إلى ما هو أفضل، بعد غربلة التجربة، وتنقيحها، وتنقيتها، مما قد يشوبها من أوشاب. وهذا ما حدث بالفعل لصحيفة “الوطن” التي دشنت إحدى المراحل المهمة في تاريخ الإعلام السعودي، وهي مرحلة الفضاء المفتوح، ومرحلة التحولات المهمة التي يشهدها المجتمع السعودي، بالإضافة إلى المتغيرات الجذرية والصعبة التي تحدث في المنطقة والعالم، على المستوى السياسي والعسكري.
وعندما وقعت أحداث 11 سبتمبر في العام 2001م كانت تلك الأحداث بمثابة الاختبار الحقيقي للمرحلة الجديدة في الإعلام السعودي، ولاسيما الأهلي، فيما يتصل بإعلام الأزمات، وكلنا نعرف ما الذي حدث، لقد أثبتت الصحافة السعودية، والصحفيون السعوديون، أنهم يستطيعون الوقوف بثبات في الصفوف الأمامية من المواجهة. وأنهم يستطيعون أن يتعاملوا مع الأزمات بكفاءة واقتدار.
التغطيات الإخبارية والتحليلية للحدث كانت على درجة عالية من المهنية، في العديد من الصحف السعودية.
مواجهة مضاعفات الحدث، على المستويين الداخلي والخارجي، كانت كذلك على درجة متقدمة من الكفاءة. وفي هذا الاختبار ظهرت ونشرت وترددت مواقف ورؤى متفقة ومختلفة، متطابقة ومتباينة، متداخلة ومتقاطعة، إن على المستوى السياسي، وإن على المستوى الفكري، أو الأيدلوجي.
ومنذ ذلك اليوم أضحى فضاء الإعلام السعودي أكثر رحابة. فأحداث 11 سبتمبر، ومضاعفاتها الداخلية والخارجية، عملت على إنضاج “التجربة”، فأخذت تظهر خيوط أكثر وضوحاً للتمايز بين ما هو حكومي، وما هو غير حكومي، أو ما هو (أهلي) وما هو للدولة.
ولابد أن نذكر هنا أنه مما أسهم، في الأساس، وقبل أحداث الكويت وقبل أحداث 11 سبتمبر، في تنمية الوضع الجديد، أو التهيئة له، هو قيام تجارب إعلامية سعودية أهلية، مستقلة، في خارج البلاد، (الشركة السعودية للأبحاث بصحفها المتعددة، ثم بعدها الحياة. وأخيراً مجموعة الـ MBC) وقد لاحظ الجميع أن تلك التجارب تلعب دوراً مهماً وفعالاً في تحسين صورة العقل السعودي، والخطاب السعودي، في آن معاً، وأن مما ساعدها على ذلك دأبها المستمر على إزاحة أي لبس فيما يتصل بمستوى علاقتها بالدولة أو بمؤسساتها المختلفة.
ولم يكن الاجتياح الأمريكي للعراق، بدعوى الإطاحة بصدام حسين وإقامة الديمقراطية، بأكثر من “احتلال” صريح لبلد عربي شقيق، وأي قوات أجنبية تجتاح بلداً بدون موافقة أهله فهي قوات غازية ومحتلة. لم يكن ما حدث في مارس – أبريل العام 2003 يوصف بأقل من هذه الأوصاف في الإعلام الأهلي السعودي، بغض النظر عما يقال أو يتردد في أجهزة الإعلام الرسمية السعودية من أوصاف ربما كانت أقل حدة. وقد أخضعت أحدى الدراسات المنهجية 450 كاتباً سعودياً للتحليل من حيث استكناه مضمون ما كتبوه عن الغزو الأمريكي للعراق، فكان من أبرز نتائج الدراسة أن الكتّاب السعوديين لا يكنون أي ودّ للسياسات الأمريكية في المنطقة، وأنهم يعبرون عن ذلك بوضوح بالغ، مهما سببه ذلك من آثار ممكنه على مستقبل العلاقة الاستراتيجية مع القوة العظمى التي بيدها مقاليد السياسة الدولية.
ونتيجة لتلك التطورات التي رافقت التحديات الجديدة التي شهدتها بلادنا، وتلك التي اجتاحت منطقتنا كلها، لاحظنا عدة أمور:
أولها: تعدد في المرجعيات، وتنوع في المصادر، أخذت بهما الصحافة السعودية، فهي لم تعد مرتهنة لما تبثه الوكالة الرسمية للأنباء، ولم تعد مقتصرة على رؤية واحدة في التحليل والعرض والاستنتاج.
ثانيها: إن الإعلاميين والمثقفين السعوديين الذين كانوا يهابون الظهور في وسائل الإعلام الأخرى، مثل الفضائيات، لشرح وجهات نظرهم، أو وجهة نظر بلادهم (عدد قليل كان يقوم بهذه المهمة في السابق) أصبحوا الآن أكثر عدداً، وأكثر طلاقة، فقد تكاثرت الوجوه و الأسماء التي نراها في قنوات عربية وأجنبية، صديقة وغير صديقة. وهذا كان ينطوي، بمعنى ما، على دعم واضح للإعلام الرسمي للدولة، وينطوي على انفتاح مقبول وإيجابي للسعوديين على الإعلام عموماً، وعلى أشكاله ووسائله المختلفة.
ثالثها: إن الإعلام الرسمي لم يعد ذلك الإعلام الكسول، الذي يتوارى أو يستنكف عن مواجهة الافتراءات والأكاذيب التي تلحق ببلادنا، وهي غالباً ما تكون صدى للشائعات أو التهويل أو الترويج لرسائل أو أفكار أو أخبار مضرة، فقد نشط الإعلام الرسمي على جبهتين،:
الأولى: أخذ المبادرة إلى نشر الأخبار الصحيحة في حينه، مستبقاً بذلك أي فرصه للشائعات أو المبالغات أو التهويل.
والثانية: التصدي على الفور لكل ما يقال من أمور ليست صحيحة، أو أن للدولة وجهة نظر خاصة فيها، أو في أسبابها أو تداعياتها.
هذا الوضع لم يكن موجوداً في السابق، فالشائعات لم تكن تجد من يخمدها، ووجهة نظر الدولة، في بعض القضايا أو بعض المستجدات، لا تجد من يعبر عنها بما يكفل عدم الوقوع في التوهم، أو التكذُّب إن صح التعبير
ولم يعد محظوراً على الإعلام الأهلي أن يأخذ المبادرة، من جهته هو، لنشر ما يتوفر لديه من معلومات مادام أنه متحقق من صحتها.
في ظل هذه المرحلة الجديدة، الأكثر انفتاحاً في الإعلام السعودي، حدثت، على المستوى الداخلي، أحداث كثيرة كانت بمثابة أزمات حقيقية، ولاسيما على المستوى الأمني والاجتماعي. ودعوني أذكر هنا، على سبيل المثال، حادثة حريق مدرسة البنات الشهير في مكة المكرمة في العام 2002 لقد كان ذلك الحدث، من وجهة نظري، اختباراً آخر لتطورات العلاقة الجديدة بين الحكومة والإعلام الأهلي. وبغض النظر عن ملابسات ذلك الحادث الأليم، وعما جرى في تغطياته من مبالغات، أو حتى أخطاء (مثال ذلك صحيفة الوطن التي كنت رئيس مجلس إدارتها) إلا أن ما جرى في الصحافة السعودية يومها أكد أننا كنا قد انتقلنا بالفعل إلى مرحلة أكثر وضوحاً فيما يسمى بــ “إعلام الأزمات” لقد تركنا أو هجرنا المربع الضيق الذي كنا قديماً نحصر أنفسنا فيه، وهو عدم الإقرار أصلاً بفكرة الأزمات، فلا يوجد أزمات!! أين هي الأزمات؟! ..
لقد استوينا الآن تماماً على الجودي، أو داخل مركبة الانتقال من مرحلة “أزمة الإعلام” نفسه، إلى مرحلة “إعلام الأزمات” أجل! لقد أصبح، حادث مدرسة مكة، يفصلنا عن ذلك المربع الضيق مسافات طويلة جداً.
ومن أهم ما يميز تداعيات حادثة مدرسة البنات في مكة المكرمة تعدد فرص النظر إليها .. سواء من حيث هي عاكسة لمنظومة تطورات مرت وتمر بالبلاد، أو من حيث هي مختزنة، في ذاتها وفي ظرفها، لأفكار وتصورات ومفهومات تعكس جانباً من وجدان السعوديين، ومن تكوينهم العقلي والثقافي. ولقد وضع السعوديون هذه الأمور، جميعها، للمراجعة والمناقشة والفحص، ابتداء من الجانب المادي والإجرائي المتصل بالأهلية المعمارية للمدارس المستأجرة، وانتهاء بما صاحب محاولات إنقاذ البنات أنفسهن من الحريق من تحديات، بعضها إداري، وبعضها أخلاقي، مهما كان حجم المبالغات التي رافقت تغطيات الحدث. ولقد أحس الإعلام الأهلي السعودي بمباركة الدولة له في محاولته تمييز العلاقة بينهما ، فدوره هو دور الرقيب، والمتابع، والمدافع عن مصالح الناس التي هي موضع اهتمام الدولة، ودور الدولة هو أن تأخذ بما هو حق وصحيح وبعيد عن الغرض. ولعل مما نتج عن ذلك أن أجريت، في حينه، الإصلاحات المهمة التي طرأت على المؤسسة نفسها التي تقود تعليم البنات، إذ استبدلت بعض القيادات فيها، وطالت ذلك قمة الهرم، بل لقد تطور الأمر بعد ذلك بقليل إلى إعادة النظر كلياً في البنية المؤسسية برمتها، فصدر القرار السامي في العام 1423هـ/2002م بدمج تعليم البنات مع تعليم البنين، بصفته واحداً من قرارات الإصلاح المهمة التي حدثت في السنوات الأخيرة.
على المستوى الداخلي، نقول إن أحداث 11 سبتمبر ، وحادثة حريق مدرسة البنات في مكة المكرمة، وما جرى بينهما ، أو بعدهما ، من تفجيرات ، وأحداث دامية، في مختلف أنحاء البلاد، وضعت الإعلام السعودي كله في خط المواجهة، ليس فقط للتصدي للمخاطر التي انهالت من كل جهة، ولكن أيضاً لمراجعة “الفكر” وإعادة تقويم البنى المؤسسية التي أدت إلى ما أدت إليه، وقد اضطلع الإعلام، الأهلي بالذات، بالنصيب الأوفر من مشروع المواجهة والمساءلة.
ومرة أخرى نجد أن المعركة، التي توحد الحكومة والإعلام الأهلي للقتال معاً، في خندق واحد، هي نفسها المعركة التي تجعل الحكومة ذاتها (أو بعض المسؤولين فيها) موضوعاً للملاحظة، أو للنقد، فيما يتعلق ببعض الخطط، أو الممارسات، التي ينبغي الكف عنها، أو يجب إصلاحها، أو ترشيدها، حتى لا نجد أنفسنا من جديد، أمام تحديات أكثر شراسة ، أو أكثر لؤما.
لقد تنامت لدى الصحفيين روح النقد الحر، وأخذ بعض القياديين في البلاد يدفع المسؤولين في الدولة إلى قبوله، واعتباره جزء من رسالة الصحافة، وهو إن كان حقاً فذلك يوجب الإصلاح، وإن كان باطلاً فهو يعطي الفرصة للمسؤولين لإلقاء مزيد من الضوء على الحقائق (سلمان بن عبدالعزيز) وهناك في الأنظمة والتشريعات ما يحمي الناس من بطش المتسرعين وعنف أصحاب الغرض (محاكم الفصل في منازعات النشر).
وهنا برز أكثر فأكثر التمايز في العلاقة بين الدولة والإعلام الأهلي. وهنا أيضاً أظهرت الدولة رحابة صدر ملحوظة في قبول ما يقال من نقد، لا بل أنها شجعت، بطريق غير مباشرة أحياناً، حوار الإعلاميين والمثقفين حول مسائل شائكة، مثل التطرف والغلو، وهذا جرّ، بالضرورة وبالسياق، إلى فتح نوافذ كانت مغلقة، بل هي من التابوهات التي ينبغي عدم الاقتراب منها، ومن ذلك زيادة فرص عمل المرأة في مجالات لم يكن من الممكن القبول بمجرد التفكير فيها في السابق، من ذلك أيضاً موضوع الحجاب، وظهور صور المرأة في الصحف، فما بالك بخروجها على شاشات التلفزيون، ولأول مرة يشاهد السعوديون نساءهم على الفضائيات، ضمن برامج إخبارية أو علمية أو ثقافية، وطال هذا الواقع الجديد شرائح المجتمع التي كانت تنتمي، في الأصل، إلى فئات المحافظة الشديدة.
إن الحوار الذي انطلق حول هذه المسائل، خلال أعنف الأزمات التي عاشتها بلادنا، اقتضى إعادة النظر في تقاليد الحوار القديمة التي كانت لا تبيح مناقشة كبار العلماء، مثلاً، أو الرد عليهم في وسائل الإعلام، فأصبح متاحاً للإعلام الأهلي أن ينشر المقالات التي تناقش العلماء وتحاورهم. والسياق العام اقتضى ظهور مثقفين شباب، لاسيما ممن كانوا محسوبين على الإسلاميين المتشددين، بل الجهاديين التكفيريين، ممن راجعوا مواقفهم الفكرية، فتراجعوا عن عدائهم للمجتمع والدولة، وانقلبوا على رفقاء السلاح، وعادوا مواطنين صالحين، يطرحون رؤى وأفكاراً تناهض التكفيريين بطبيعة الحال، وترفض الغلو والتطرف، وتدعوا إلى الانفتاح على العصر، وإلى التسامح والحوار، وتدعم حرية الاختيار، وتقدم، قبل هذا وبعده، آليات أكثر مرونة للتفكير وللتعاطي مع تحديات الحضارة الحديثة وإنجازاتها.
وكما يتضح من هذه الأحداث نفسها فإن التمايز بين “الأهلي” و”الرسمي” في الإعلام لا يقتضي بالضرورة أن يكون هناك “خلاف” أو تناقض، أو تعارض، وهذا التمايز لا ينبغي أبداً أن يفهم على هذا النحو، فليس في العلاقة بين الصحافة والدولة مواقف تتطلب الحدّية والفصل التام، أو منطقة الخير كله أو الشرّ كله، أو مبدأ من ليس معي فهو ضدي، فمن رسالة الصحافة أن تخدم الأهداف الوطنية بطريقتها وأسلوبها ورؤيتها للأمور، وهذا غاية ما تريده الدولة، وما ترمي إليه، بل إن ما، يبدو “اختلافاً” في بعض الأحيان قد يخدم الأهداف البعيدة بأكثر مما يبدو اتفاقاً تاماً.
إن طبيعة الأوضاع التي تحكم تصرفات الدولة، في هذه المرحلة من تاريخها، وبعد ذلك الشوط الطويل الذي قطعته في بناء شخصيتها الحديثة، دفعت بقوة إلى أن يكون هناك متنفس من خلال الإعلام الأهلي. وتستطيع اليوم أن تقول قناة “العربية”، على سبيل المثال، ما لا تقوله القناة السعودية الأولى أو الإخبارية ، بل لعل من اللازم أن يكون ذلك كذلك، لما فيه مصلحة جميع الأطراف. ولقد تحولت الصحافة اليوم إلى واحدة من المرجعيات التي يتم اللجوء إليها لقراءة هموم الناس، ومشكلاتهم، وتطلعاتهم، وتوقعاتهم. وربما يكون هذا من بين الأسباب التي اخترعت من أجلها مناهج بحثية تفضي إلى هذا الغرض، مثل منهج “تحليل المحتوى” على سبيل المثال، ولكن ستكون نتائج الأبحاث غير دقيقة، أو هي مضللة، إن لم نضمن درجة عالية من الصدق أو الإخلاص فيما يكتب.
إن تطورات ما جرى، بعد كل تلك الأحداث، تستدعي أن نذكر كذلك أن العلاقة بين الإعلام الأهلي والدولة ازدادت وضوحاً حتى بالنسبة إلى السعوديين أنفسهم، وذلك من حيث إدراكهم للمدى الذي يمكن أن تصل إليه مسؤولية الدولة عما يكتب وينشر، فالدولة في السابق كانت تتحمل وزر كل ما يكتب في الصحافة من أفكار وآراء، وهي في نظر البعض مسؤولة، ولو إلى حد ما، عنه، وهي التي يجب أن تتدخل للرد أو للردع، أو للتكفير عما يرتكب الكتاب والصحفيون من ذنوب، أمّا اليوم، وبعد أن نضجت التجربة، أدرك هؤلاء بأن من المفروض إلا تتحمل الدولة وزر ما تنشره الصحافة، أو ما يكتبه كتابها، وهي يمكن أن تؤيد البعض، ويمكن أن تقاومه، ويمكن أن تقبله، ويمكن أن ترفضه، ويمكن أن يكون منسجماً من رؤيتها لما يجري من أحداث، ويمكن أن يكون على غير ذلك. وهي ليست مطالبه بالإفصاح عن هذا في كل حين، سواء بالقول أو بالعمل. وأصبحت الصحافة، بل حتى بعض قنوات الإعلام الرسمي ، مكاناً لتزاحم الأفكار وتعارضها، وتلاقيها، وتنوعها، وتعددها، ووقفت الدولة على مسافة معقولة متوازنة مما يجري ، مع الإبقاء على البطاقة الحمراء في يدها، وهي لها الحق في أن ترفعها في وجه من يخالف أصول اللعبة، أو قواعدها، أو شروطها، فيمس ما لا يمس، أو يقترب مما لا يجوز الاقتراب منه من الثوابت الدينية أو الوطنية، وهي هنا، مرة أخرى، تعفي نفسها من عبء شديد كانت في الماضي تتحمله، أو هذا على الأقل ما كان يعتقده حتى بعض السعوديين أنفسهم، أو ربما كثيرون منهم، فما بالك بغير السعوديين، من أنظمة سياسية أو أفراد، ممن ظلوا يرون أن الصحافة الأهلية في السعودية إنما تعبر دائماً من وجهة نظر الدولة، وهي تتحمل بذلك مسؤولية أي كاتب قد لا تعجب وجهة نظره دولة صديقة أو شقيقة.
إن ما وجد حتى الآن من تشريعات للإعلام في المملكة كفيل، من ناحية قانونية، بأن يجعل كل كاتب مسؤول عما يكتب، وكل صحيفة مسؤولة عما تنشر، والتشريعات أو الأنظمة المرعية ستعطي كل ذي حق حقه، وستقول المخطئ أخطأت وللمصيب أصبت.
ينبغي أن يكون الصحفيون محكومون بأخلاق واضحة للمهنة، وبضمير يلتزم بالواجبات الدينية، والمسؤوليات الوطنية والاجتماعية، وبالأنظمة المرعية في البلاد، وبالسمت الذي يحكمها في محيطها العربي، وفي مجالها الإسلامي الأوسع.
إن التمييز الذي يجري الآن في العلاقة بين ما هو حكومي وما هي أهلي، ولاسيما في مجال الإعلام، آخذ في التطور بشكل أكثر صدقاً وواقعية. وهو أسهم إلى حد كبير في وضع الإعلام الأهلي أمام مسؤولياته الوطنية، وهو نجح في خلق بيئة متعددة، متنوعة، تحتشد بالأفكار والرؤى والبدائل، مع الالتزام الشديد بالثوابت التي يدين بها المجتمع والدولة.
وهذا يندرج، بطبيعة الحال، في إطار المشروع الكبير للإصلاح الذي يقوده، باقتدار وبكفاءة عالية، قائد هذه البلاد، ورائد نهضتها الجديدة، خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز فهو، وفقه الله، قدم لهذا المشروع الكبير ما يحتاجه إليه من الدعم والدفع، وقد ابتدأ ذلك منذ أن دشن مشروع “الحوار الوطني” في العام 1424 وهو المشروع الذي قارب أهم المرتكزات في تكوين ضمير السعوديين، ووعيهم بالحياة و بالمستقبل، مثل: التعليم، وحقوق المرأة، والغلو والتطرف وغيرها. ولم يكن قيام ذلك “الحوار” إلاّ الإيذان بميلاد مرحلة جديدة في تاريخ السعوديين المعاصر، مرحلة الإقرار بالتعدد، والاعتراف بالتنوع وحق الاختلاف، ليس فقط على مستوى المذاهب أو الطوائف الدينية، إذ مهَّد مشروع الحوار الوطني لانتقال السعوديين من حقب “الاحتراب” إلى حقبة “الاحترام” بين الطوائف أو المذاهب التي تنعم بحق المواطنة، وفق نواميس العدل، وحسب قواعد المساواة في مجتمع سويّ، ارتضى أن ينضوي، جميعه، تحت راية وطنية واحدة. وهذه المرحلة التي انتقل إليها السعوديون تنتمي بجدارة إلى روح العصر الذي نعيشه في مختلف تحدياته، وعلى مستوى كل ما تحقق فيه من إنجازات تقنية ومعرفية وحضارية. والملك عبدالله، حفظه الله، أكد في جميع مناسبات الحوار على الأخّوة، واحترام قواعد “الاختلاف” التي لا يجب أبداً أن تكون منطلقاً “للخلاف”، بل هي دليل التسامح، والطريق الصحيح إلى الحفاظ على وحدة الوطن.
إننا نعتقد أن هذا المناخ الجديد هو الذي يساعد على رفع كفاءة الإعلام السعودي في مواجهة الأزمات، وفي التعامل معها .. فبينما كان “إعلام الأزمات” يشكل عندنا في السابق “أزمة” كبرى في حد ذاته، لصعوبات الحركة، ولمخاطرها، ولأوهامها المحتملة وغير المتحملة، فأننا اليوم، وفي ظل هذا النضج الذي نشهده في التجربة الإعلامية، وفي مفهوماتها، وفي أنساقها، نستطيع أن نقول بأنه بإمكاننا، منذ اليوم، أن ندير إعلام الأزمات إدارة كفؤة .. بل يمكننا القول بأن ما مررنا به ، في بلادنا، وفي إقليمنا بمجمله، من أحداث وكوارث، خلق لدينا تجربة ثرية وغنية في التعامل مع الأزمات، فما كان لحراس الأمن السعوديين، النبلاء الشرفاء، في بلادنا أن يظهروا هذه الكفاءة والقدرة والنجاح في مواجهة خلايا الإرهاب المستيقظة والنائمة لو لم نصطلي بنيران الأحداث الأليمة التي مرت بنا، واليوم يعد الأمن السعودي، على مستوى العالم كله، من أكثر الأجهزة كفاءة في التعامل مع أحداث الإرهاب، مواجهة ومعالجة. وكذلك الحال بالنسبة للإعلام السعودي، فقد مر به من الأزمات ما راكم عنده من المعرفة وأدواتها ووسائلها ما يجعله اليوم في مستوى بارز في مواجهة كل ما يتصل بتلك الأنواع والأشكال من الأزمات، وليس مستغرباً أن يظهر من بين الإعلاميين السعوديين جيل من الشباب ممن يعدون اليوم من “الخبراء” في موضوع الإرهاب، والحركات الجهادية والتكفيرية، بحثاً، وتحليلاً، واستنتاجاً، وتراثاً معرفياً، وتوفيقاً تسديداً في الآراء. بل إننا نستطيع القول بأنه قد نشأت في الفضاء الثقافي السعودي اليوم حركة ثقافية ثرية يمكن أن نسميها بـ “ثقافة مواجهة الإرهاب” .. وشمل ذلك، البحث، والدراسة، والمقالة، والرواية، والشعر، والمسرحية، وبالتالي شمل ذلك أيضاً الإنتاج الفني، في مجال الأغنية، والنشيد، بالإضافة إلى الإنتاج التليفزيوني والإذاعي، وبدرجة راقية في الأداء والمهنية.
هل نقول بأن ذلك كله يدخل في باب ما يسمى بالضارة النافعة؟! إننا ما كنا نريد أن نضر لكي ننفع .. لكنه قدرنا ، فقدر الله وما شاء فعل.
إن ما نشهده اليوم من حراك ثقافي، وإعلامي على وجه الخصوص، هو بمثابة مرحلة جديدة في تاريخنا، وهذه المرحلة ما زالت تحتاج إلى المزيد من البحث والتأمل، وتحتاج أيضاً إلى المزيد من الرعاية والتطوير، لنضمن السلامة، ولنصل بعون الله، إلى مرافيء المستقبل الأكثر إشراقاً، نحو هدف واحد، وفي صف واحدة، وفي لحمة وطنية واحده: المواطن والدولة، الحكومة ومؤسسات المجتمع كلها، فنحن أشدنا وحدتنا معاً، ونحن بنينا نهضتنا الحديثة معاً أيضاً، ونحن لابد أن نصون ذلك ونحميه معاً، ولا خيار آخر لنا في هذا، فنحن نحب بلادنا، ولا أهمية لنا من دون هذا الحب.