مضى على عملنا مع المرحوم، حتى الآن، حوالي العام.. نتناقش ونتحاور.. ونشد ونرخي.. ونرضى ونغضب.. وكنا ما نبرح ننتظر ذلك اليوم الذي يكتب فيه ابن مكة البار افتتاحية العدد الأول من الندوة الجديدة

نسي د. محمد عبده يماني أن يكتب، قبل أن يرحل، افتتاحية العدد الأول من “الندوة” الجديدة.
نسي أبو ياسر الموعد الذي سيقدم فيه للناس العدد الأول من الصحيفة.. فقد رحل فجأة!
لم يسبق أن قال لنا إنه كان يتجهز للرحيل.. فقد كان يناقش.. ويفاصل.. ويفاوض.. ويعمل.. ويتفاءل.. ويحلم.. وكأنه باقٍ بيننا إلى الأبد..
كان آخر لقاء لي به حول مناقشة عقد الشركة التي ستتولى طرح اكتتاب “الندوة” للمساهمين الجدد، قال لي: الآن يمكن أن نعلن الـ Take off.. لصحيفة عصرية متوثبة لا تشبه أحداً.. ثم يضيف: صحيفة تليق بمكة المكرمة!.. ثم وقع العقد يوم السبت ورحل يوم الإثنين!
منذ أن دعاني للقائه أول مرة (قبل سنة) وهو لا يفتأ يردد ما يليق بمكة.. وما ينتظر من الندوة الجديدة: مكة هي مركز الوحي، وهي محور المقدس، ومكة هي الصلة بين الأرض والسماء، ومكة هي ثقافة وقيم وتجليات وأنوار لا تخبو!.. أما “الندوة” فهي ستون عاماً من الرسوخ.. ثم من التشبث بالبقاء.. أجيال من مثقفي الحجاز خرجوا إلى الدنيا من رحم “الندوة”.. وإذا كتب تاريخ الثقافة السعودية، وتاريخ الإعلام السعودي فلا يمكن القفز على موقع “الندوة” فيهما معاً.. سيفرد للندوة في ذلك التاريخ مكان فسيح وواضح: أحمد السباعي وآل جمال (صالح وأخوه أحمد) وعبدالله عريف، والعواد، والساسي، وأحمد قنديل، ومحمد حسن فقي، وحامد مطاوع، وآخرون من المثقفين والمفكرين الذين أشعلوا مستقبل الأمة وملؤوه بالنور.
ثم يضيف اليماني: ما يمكن أن تقوم به “الندوة” لمكة هو “رسالة”، أما ما ستقدمه مكة للندوة فهو الدعم الهائل الذي تقدمه دائماً هذه المدينة العظيمة لأي “منتج” يخرج منها؟ فأي حمولات وموارد ثقافية ستوفرها مكة لصحيفة الندوة!..
ثم يرفع صوته: ألك إدراك بكل ذلك؟ فأقول: وما المطلوب يا أبا ياسر؟ ليجيب:
– أن نبني “منتجاً” جديداً يليق بالزمان وبالمكان.. ومن ثم يضع يده على “مخازن” مكة.. وهي وفيرة!
تذكرت حينها محمد عبده يماني يوم كان وزيراً للإعلام عندما هاتفني (في أواخر عهده بالوزارة) ليبلغني باختياري رئيساً لتحرير مجلة اليمامة.. لم يمض على عودتي إلى المملكة يومها سوى ثلاثة شهور فقط بعد أن أنهيت دراستي العليا خارج البلاد، كان الذي رشحني لهذه المهمة الأمير سلمان بن عبدالعزيز أمدّ الله في عمره!.. وكان اليماني يتحدث عن “اليمامة” بمثل ما تحدث عن “الندوة”:
المهمة التي أمامك يا فهد ليست مهمة سهلة،
فـ “اليمامة” أول صحيفة تنشأ في وسط البلاد وفي عاصمتها، وهي مثقلة بأسماء كبيرة من مثقفي المنطقة، ابتداء من مؤسسها العملاق حمد الجاسر، ومروراً بكل الكبار الذين عبروا إلى النور من خلالها، وخرجوا إلى الشمس من تحت عباءتها.. اليمامة تاريخ طويل لتنمية ثقافية هائلة.. واليمامة تنطلق إلى الناس بجناحين وافرين هما الرياض وسلمان بن عبدالعزيز.. اليمامة هي الإقليم والأمير.. هي الصحراء والمستقبل.. ولابد من “تجديد” غناء هذا الطائر الجميل.. لابد من شحذه وصقله ليكون لائقاً ومتسامياً إلى حدود رؤية الأمير، وليكون منسجماً وملتحماً مع عبق المكان وإيحاءاته وطموحاته وتطلعاته!.. ولقد أضاف أبو ياسر أيضاً رافعاً صوته دائماً ليحشد كل أحاسيسي لكلماته: هل تدرك ما أنت فيه؟!
خفت يومها أن أخذل الأمير والوزير! كما هو خوفي اليوم ومحمد عبده يماني نفسه يحرضني على مغامرة جديدة في مكة.. ولاسيما أن في المنتصف بين التجربتين كانت تقف التجربة الشاهقة لصحيفة “الوطن”.. لقد كان من محركات تلك التجربة “إقليم” أيضاً هو عسير.. و”أمير” كذلك هو خالد الفيصل.. ومرة أخرى يكون للخوف سطوته الهائلة.. فالفشل ممنوع في عسير خالد الفيصل.. ولا سبيل طبعاً إلى خذلان الإقليم.. قال لنا خالد الفيصل منذ أول يوم تقابلنا فيه: أريد منتجاً لا يشبه إلاّ نفسه.. أو “اقضبوا الباب”.
قلت لمحمد عبده يماني: لعل من حسن حظ الندوة أن تجربة الوطن ما تزال طرية ويانعة!.. فسنتحاشى الأخطاء.. وقد كانت هناك أخطاء!.. أما التحدي – يا سيدي – فهو في أقصى مستوياته: فإن نقلنا تجربة “الوطن” حرفياً (بتسكين الراء) فكأننا لم نفعل شيئاً.. وإن جاء المنجز بأقل من ذلك فسيكون الحديث عن النجاح صعباً وشائكاً.. فلابد للندوة، إذن، من “صيغة” تقينا هذه المزالق الوعرة.. أو هي تمكننا من المشي الحثيث فوق هذا اللوح من المسامير المدببة.
ضحك د. يماني ثم قال: الآن يبدو أنك أدركت لماذا جئنا بك عدواً وضرباً لبطون الرواحل! من نجد إلى الحجاز..
مضى على عملنا مع المرحوم، حتى الآن، حوالي العام.. نتناقش ونتحاور.. ونشد ونرخي.. ونرضى ونغضب.. وكنا ما نبرح ننتظر ذلك اليوم الذي يكتب فيه ابن مكة البار افتتاحية العدد الأول من الندوة الجديدة.. لكنه فاجأنا، سامحه الله، ورحل قبل أن يفعل.. ترك ظهورنا عارية للريح وللشمس وللصقيع! من سيلتقي عبدالله بن عبدالعزيز ليقول له إن ما أراد للندوة، حفظه الله، قد حصل ولله الحمد؟ من سيقابل خالد الفيصل لإطلاعه على تطورات المشروع؟ ومن سيواصل الاتصالات بأمين العاصمة حول “تطبيق” الأرض الممنوحة للصحيفة في مكة؟ من سيختار لنا رئيس التحرير؟ ومن سيوقع عقود الشراكات مع الشركاء، ومذكرات التفاهم مع الداعمين والمؤمنين بأهدافنا؟! من الذي سيترأس الاجتماع الأول في مبنى الصحيفة الجديد على طريق مكة – جدة؟! ألم نتفق على أن المبنى الجديد سيكون هناك بطريق مكة – جدة؟! وأنه سيضم المطبعة والمكاتب الجديدة للصحيفة؟!
لا.. لم نتوقع هذا منك يا أبا ياسر. الطريق التي مشيناها معاً كان ينبغي أن نصل إلى نهايتها معاً أيضاً!!.. أستغفرك ربي فهذه إرادتك وقضاؤك ولا راد لهما! ونعم بالله!
أعود فأقول يا أبا ياسر!.. الحصان الذي كنا نسرجه ونعدّه للعدو كان ينبغي أن نطلقه سوياً.. وأن نراقب توثبه سوياً أيضاً.. إنه في حاجة إلى سماع هتافك وهو يركض.. وهل هناك حصان يستطيع أن يعدو أو يشرئبّ دون هتاف فارسه ودون استلهام رائحته وعطره وأنفاسه؟!
لا لم نتوقع هذا أبداً .. فسفرك هذا كان مباغتة مذهلة.. في غمضة عين خفت ضوء السراج.. جف تماماً زيته.. وفي لمحة واحدة ختلتنا العتمة.. ألقت ستائرها السوداء على كل مطالع النور.. انقضّت علينا من كل اتجاه.. أجل.. لا أحد.. ليس هناك أبداً من أحد!.. حتى الفضاء الذي كان يحيطنا خلا من الأوكسجين واحتشد بالضيق والأتربة.. حسبنا أننا نختنق.. أغثنا يا مغيث .. اللهم إن هذه إرادتك.. وهذا قضاؤك.. فلا راد لهما.. ونعم بالله.
لا.. لم نتفق على هذا يا أبا ياسر!.. فأنت لم تخبرنا أبداً أي شيء عن سفرك المفاجئ هذا.. تركتك في مكتبك يوم السبت وغادرتَ فجر الاثنين!.. وَلْ.. بهذه السرعة يا رجل! طيب والافتتاحية.. فين الافتتاحية؟!.. نريد على الأقل الافتتاحية؟!.. هل أسأل ياسر أو عبدالله أو عبدالعزيز عنها؟ فقد تكون تركتها لنا فوق المكتب الأخضر أو في درج السيارة؟ من يدري؟ سأسألهم.. “أنا مالي شغل” الافتتاحية يا حبيبنا لن يكتبها إلا أنت!.. تصرف!!

2010-11-27
المصدر: صحيفة الوطن

وقت البيانات لتقنية المعلومات شركة برمجة في الرياض www.datattime4it.com الحلول الواقعية شركة برمجة في الرياض www.rs4it.sa