جريدة الجزيرة العدد 9978 الموافق: 23/1/2000م
شروط الفقر.. شروط الغنى!
ونحن نقف، إذن، على أعتاب الألفية الثالثة، منخرطين، شئنا أم أبينا، في نظام جديد، الكلمة الأولى فيه للشركات العملاقة، وللاندماجات الضخمة، يحسن أن نتأمل مستوى الرخاء في هذا العالم، الذي بمقتضى النشرة الشهرية لمصرف الامارات الصناعي، ارتفع مع ارتفاع اجمالي الناتج المحلي لدول العالم إلى عشرة أضعاف ما كان عليه خلال العقود الخمسة الماضية، أي من 3 تريليونات دولار إلى 30 تريليون دولار حالياً, هذا هو الجانب المريح فيما أوردته النشرة، أما الجانب غير المريح فهو أن توزيع هذا الرخاء كان له نتائج متباينة، فقد زالت الفجوة بين الدول الأقل تقدماً وبين الدول المتقدمة ، وهذا عظيم، ولكن غير العظيم، بل المزعج والمثير للقلق، هو أن المسافة تتزايد تباعداً بين الدول المتقدمة والدول المتخلفة ,, أي أن الفجوات الصغيرة في الحالة الأولى قد اختفت، لكن الفجوات الكبيرة في الحالة الثانية تفاقمت أكثر مما يحتمل، وهذا يعني بعبارة أخرى أن الغني قد ازداد غناه وأن الفقير قد تعاظم فقره.
فعلى الرغم من التأكيدات المستمرة على أننا نعيش في عالم واحد مترابط ومتداخل إلا أن تقرير التنمية البشرية لعام 1999، حسب د, عليّ الدين هلال، يبيّن بجلاء الهوّة التي تفصل أغنياء العالم عن فقرائه، فعندما نقارن خمس العالم الأكثر ثراءً مع الخمس الفقير يتضح أن الخمس الأغنى يساهم بنسبة 86% من انتاج العالم، بينما لا يساهم الخمس الفقير بأكثر من 1%، وأن الخمس الأغنى يساهم بنسبة 82% من صادرات العالم في مقابل نسبة 1% من جهة الخمس الأفقر.
ويورد التقرير أيضاً معلومات ملفتة تكاد تبرر غنى الأغنياء وبالتالي فقر الفقراء، يقول التقرير: إن الدول الغنية سجلت 97% من براءات الاختراع، وهي في الوقت ذاته ساهمت بنسبة 84% من الاستثمارات في البحث العلمي والتطوير، وكان ذلك في العام 1999م.
إن معنى هذا كله مع الأسف هو تركيز الثروة العالمية في أيدي الأقلية المحظوظة في هذا العالم، أي الخمس الغني، وفي هذا المجال يقدّر الباحثون المختصون حسب حسين محمد أن ما لا يزيد على 15 شبكة عالمية مندمجة هي التي تشكل الفاعل الحقيقي في السيطرة على السوق العالمية، ومما لا شك فيه أن أصحاب هذه الشبكة هم السادة الفعليون للعصر الجديد: الولايات المتحدة، وأوربا الموحدة، واليابان.
وحسب النشرة الشهرية لمصرف الإمارات الصناعي، فقد بلغت الصادرات العالمية في العام الماضي 7 تريليونات دولار أمريكي تمثل 21% من اجمالي النواتج المحلية لدول العالم، مقابل 17% في السبعينيات، كما بلغ حجم الاستثمارات الأجنبية أكثر من 400 مليار دولار، أي سبعة اضعاف الرقم في السبعينيات من حيث القيمة الحقيقية ، كما ازدادت المحافظ المالية وتدفقات رؤوس الأموال الاجمالية الأخرى قصيرة المدى ثلاثة أضعاف ما كانت عليه في الثمانينيات.
وتضيف النشرة نفسها: بأن الابتكارات الحديثة في مجال الإعلام والاتصال تقود التكامل، بل وتزيد من سرعته، فقد ساهمت شبكة الانترنت بمواقعها وملفاتها في إدخال سبل مختلفة لإبرام الصفقات التجارية أدّت إلى تلاشي المسافات بين الشركاء.
إن نمو التجارة الاليكترونية قد يغير تماماً تعريف السوق بالنسبة إلى الشركات.
إن هذه التغييرات الاقتصادية والتقنية لا تنتشر بين مجتمعات العالم بنسبة متساوية، أو حتى قريبة من التساوي، فهي تركزت كلها في الغرب، وخصوصاً الولايات المتحدة.
في مقابل تلك الأرقام الفاحشة في جهة الأغنياء نأخذ نموذجاً من الجانب الذي يقف فيه الفقراء: العرب مثلاً,, إن الوطن العربي بحسب النشرة التي ذكرناها أعلاه لا يمثل سوى جزءٍ صغير من الاقتصاد العالمي، فهو يساهم بأقل من 2% من اجمالي الناتج العالمي 350 مليار دولار وبالمناسبة فقد ذكر د,أسامة الباز في لقائه مؤخراً مع الأدباء المصريين أن شركة ميتسوبيشي اليابانية وصل انتاجها في العام الماضي الى 669 مليار دولار، وهذا يزيد عن الدخل القومي لعشرين دولة من دول العالم الثالث كما يؤكد د, الباز نفسه.
ونعود إلى العالم العربي ذي الغنى المزعوم لنجد أن فيه كما تذكر التقارير، ثلاث دول هي: الكويت والامارات وقطر التي يبلغ متوسط دخل الفرد فيها 9 آلاف دولار سنوياً، بينما لا يتعدى دخل الفرد في اليمن مثلاً 280 دولار سنوياً,, أي أقل من دولار واحد في اليوم الواحد، وتقول الاحصائيات بأنه يعيش في العالم العربي 73 مليون نسمة تحت خط الفقر، وهناك 15 مليون عربي لا يجدون الغذاء الكافي، وتشير الاحصاءات أيضاً الى أن 60% من اجمالي سكان العالم العربي من فئة الشباب 1 24 وينمو السكان بمعدلات عالية تفوق معدلات النمو الاقتصادي, ومن جانب آخر ازداد اعتماد الوطن العربي على العالم الخارجي بارتفاع حجم الواردات من السلع والخدمات واقتصر التصدير على المواد الخام.
كما ارتفع حجم الديون الخارجية ليصل الى حوالي 125 مليار دولار (بدون ديون العراق).
إن هذه المؤشرات ليس لها إلا أن تعكس تهاوي التجربة التنموية العربية، وهي تعكس أيضاً الضعف الشديد الذي تعاني منه الاقتصادات العربية، وهذا كله يجعل هذا الجزء من العالم، وهو محسوب على معسكر الفقراء، يجعله في وضع غير منافس البتة في سوق عالمية جديدة من أبرز شروطها المنافسة الشديدة الشراسة!
إن الموقع الذي يبحث عنه العرب في النظام الجديد هو موقع عسير المنال وهو لن يتيسر، إذا تيسر، إلا بتحديات خارقة لا نظن أن الأوضاع العربية الراهنة، بملامحها الكئيبة، يمكن أن تتيح لها النجاحات المتوخاة.