
اليمامة العدد: 441 21 ربيع الأول 1397هـ 11 مارس 1977م |
هؤلاء الذين (دوخونا) بالحديث عن الركود الأدبي واختفاء النقد وضيعة الفكر، سأتوسل إليهم بالله أن يسكتوا.
منذ أن خلقهم الله وهم يطالبون بأن يتحرك الأدب ويعود النقد، ويزدهر الفكر، ولست أدري على وجه التحديد لمن يوجهون هذه الصيحات المجنونة؟ كأنهم ليسوا المسؤولين عما يكسو وجه الأدب والفكر من خزي وعار. إنهم يقتلون القتيل، ثم يندبونه، ويصيحونه، ويدعون للصلاة عليه. وهم بكل ما يرددون من صرخات ولعنات يمارسون مع أنفسهم أعنف ما يمكن أن يطبقه مازوشتسي ضد ذاته، وأقصى ما يمكن أن ينفذه سادي في حق الآخرين. لقد أزعجونا ومزقوا أنفسهم.
يلعنون الركود، وهم إنما يلعنون أنفسهم، وينقمون على الضعف الفكري، وهم إنما ينقمون على أنفسهم. يلطمون خد الجمود، وهم إنما يلطمون أنفسهم. والجمهور في كل ذلك لم يجد بين يديه أدباً، وإنما وجد بكاء كبكاء النساء، ودموعاً كدموع الثكلى، وصياحاً مزعجاً رهيباً صم أذنيه وعكر مزاجه. وإنا لله وإنا إليه راجعون!
لو سخَّر هؤلاء جهدهم الذي يستنفذونه في حثو وجوههم بالتراب، لو سخروه في محاولة إبداع شيء ما للفكر وللأدب لكان أجدى، ولخرج لكل واحد منهم كل عام أو عامين مادة كتاب أو كتابين.
لو انصرفوا إلى التأليف في القصة، في الشعر، في البحث والدراسة، بدلاً من هذا النعيق المشؤوم، لكان في ذلك أهم الحلول لمشكلة الركود وضعف الأدب.
لا تسمعوا إليهم فإنهم -هم- ضعف الأدب. اقذفوا كل ما يقولون من أقرب نافذة إليكم، فإنهم -هم- خزي الفكر وداؤه العضال. لقد استمرؤوا أن يضحكوا على أنفسهم وعلى الناس منذ سنوات طويلة. وبعضهم اتخذ الأدب جاهاً، وبعضهم اتخذه وسيلة للشهرة، ولزكم عيون الناس باسمه الكريم و(حاضره) المحترم صباح مساء، عبر أية جريدة سيارة.
تعالوا نحاسب أكثر الأسماء التي أصبحت -لطول التكرار- كالقذى تسيل الدمع في عيون القراء، تعالوا نحاسب أصحاب هذه الأسماء فيما قدموا للفكر والأدب منذ أن عرفناهم وحتى اليوم. كل ما قدموه، هو البكاء على الأدب، والبحث عن أسباب الركود والشكوى، وإدانة الزمن الجائر.
سأقترح اقتراحاً.
عليهم أن يسكتوا، وسأٌقدم رقبتي للمقصلة، إن لم يزدهر الأدب في بلادي، وفي خلال مدة وجيزة.
هذه (غصة) حشرجت في صدري منذ مدة طويلة، قاومتها لأتقي شر هؤلاء البكائين. ولأنني كنت أثق أن صداها سيتبدد في المدى البعيد بيننا، ولكنها خرجت اليوم قهراً، لعلها تبلغهم فيقذفوني بكل الحصوات إن شاؤوا. فأنا أعرف سلفاً أن خير ما يجيدون (الردح) وفرد الملايات، كأهم مناسبة تستحثهم للكتابة في كل حين.
هذه (الغصة) خرجت، ولن تكون بيت القصيد في هذا الموضوع. معاذ الله فهي أهون من أن تستبد بكل هذه الصفحات. لقد خرجت وأنا ألاحظ عن قرب ظواهر الصحة والعافية على هذا الهيكل الضخم الذي يسمونه (الأدب) في فرنسا. الصحة والعافية، برغم كل ما يقال عن تدني الحالة الأدبية في هذه البلاد في السنوات الأخيرة.
لم أقارن بين أدبنا وأدبهم؛ لأنني ما زلت أتمتع بكل قواي العقلية. فالكل يعلم أن (يقظة) فرنسا الفكرية لها عمر مديد، وقد مرت بظروف مغايرة تماماً للظروف التي مررنا ونمر بها، إلى جانب الفارق في عدد السكان، ونسبة الأمية والوعي. لم أقارن، ولكني دهشت، وسألت نفسي هذا السؤال: منذ أن كان لنا أدب معاصر، وحتى هذه اللحظة هل يصل عدد ما صدر لكتابنا وأدبائنا من روايات ومجمعات قصصية إلى الخمسين؟! لا ولله، فقد تملكتني الحيرة يوم أن طلبوا إلى في الجامعة ترشيح بعض الروايات أو المجموعات القصصية السعودية لتدريسها في القسم العربي، ثم عدت أسأل نفسي أيضاً هذا السؤال الآخر: ما آخر إصداراتنا الروائية والقصصية في آخر مواسمنا الأدبية، إن كانت لنا مواسم أدبية؟! لا شيء ورب الكعبة، غير رواية أو روايتين لغالب أبي الفرج صدرتا قبل عام ونصف تقريباً، ومرتا بين أصابع النقاد كالهواء أو كالماء، فلم يتطوع أي منهم لدراستها، مهما كان مستواها. فهؤلاء الذين يزعمون أنهم نقاد، فضلوا أن يواصلوا انتحابهم على الركود الأدبي، بدل أن يستقبلوا عملين أدبيين أيا كانت نوعية هذا الاستقبال.
في فرنسا يا عباد الله، وفي آخر المواسم الأدبية، أي في الفترة ما بين سبتمبر وديسمبر الماضيين؛ خرج إلى السوق إحدى وخمسون رواية.
أعيدوا قراءة الرقم من جديد، ثم تذكروا أن هذا الرقم الضخم، هو من الروايات فقط، دون النظر إلى الإصدارات الأخرى في نواحي الفكر المختلفة. تذكروا أن هذه الإحدى وخمسين رواية صدرت في خلال أربعة أشهر فقط!! نحن في خلال أربعة أشهر نكتب عشر مقالات نباح، وعشر مقالات بكاء، وعشر مقالات غزل مراهق؛ للمحافظة على قارئاتنا في مدارس البنات المتوسطة والثانوية.
يجب أن تبقوا على دهشتكم، فالقصة لم تنته بعد:
كل رواية من الروايات السالف ذكرها –لا عدمتكم- تعد أول عمل أدبي مطبوع لكاتبها، وهذا يعني أمرين:
الأول: أن المسألة ليست مسألة ميلاد إحدى وخمسين رواية فقط، ولكنها فوق ذلك مسألة ميلاد واحد وخمسين كاتباً روائياً دفعة واحدة من سبتمبر إلى ديسمبر.
الثاني: أن هذا الرقم الكبير من الروايات التي ذكرنا، لا يمثل كل ما صدر من روايات خلال هذه الشهور الأربعة، بل يقتصر على حصر الروايات الأولى للروائيين الجدد، أي أن هناك روايات أخرى كثيرة لكُتَّاب سوى فئة قليلة منهم تتمثل في المتخصصين. هم يريدون كتاباً يقرؤونه في المطعم بين فترتي العمل الصباحية والمسائية، أو في التاكسي، أو قبل النوم. هذا الكتاب بالنظر إلى الساعات التي يقرأ فيها، لابد أن يكون على قدر من التشويق والسهولة والليونة. وخير ما واءم هذا الطقس الشعبي من الأنواع الأدبية المعروفة، هو: الرواية. فالرواية هي قبل كل شيء (حكاية)، والعامة يحبون الحكايات والقصص، فهي أسهل متابعة وأقدر تشوقاً. وقدرات الكُتَّاب كقصاصين تختلف من واحد لآخر، وعلى ضوئها وضوء إثارة الموضوع الذي يختاره، يتمكن الكاتب من القدر الذي يناسبه من الحظوة لدى هؤلاء العامة. النقد الأدبي وقضاياه ومشاكله يأتي فيما بعد، فهو لم يعد على قدره السابق من الأهمية والخطورة. و(هيبة) الرواية نفسها التي كانت تزلزل كل من يهم بمراودة هذا النوع من الأدب الصرف، هانت ولانت هي الأخرى؛ حتى أصبح الروائيون الشباب يديرون ظهورهم دون (حياء) لفولبير، وجيد كاكا. فطموح أي واحد منهم، لم يعد أن يصبح (خالداً) مثل هؤلاء. فمسألة الخلود أعيد فيها النظر، ولم تعد المقياس القاطع للأثر الأدبي. المقياس الحقيقي، هو القدرة على مخاطبة العدد الأكبر من هذا الجمهور الذي يريد أن يقرأ. القدرة على مخاطبته بأسهل طريقة، ومن أيسر سبيل. إنهم لا يكتبون لـ (الغد)، بل يكتبون لليوم، للساعة الراهنة.
الرواية على هذا الأساس، أصبحت هي (العربة) الأسرع نحو هذا السواد الأعظم من القراء، أعني القراء غير المأخوذين فعلياً بحب القراءة، القراء الذين يبحثون عن الحكاية، والذين يرومون الاختلاف إلى عوالم متخيلة تشبه عوالمهم اليومية، أو أنها تختلف عنها، فتثير فيهم التطلع وروح المقارنة والتصور.
والحديث عن الشعر نوعاً أدبياً في متناول الناس كمتلقين، وفي متناول أهل الأدب كمصدرين؛ أصبح حديثاً لا يثير الاهتمام. فإلى جانب أن الشعر أصلاً لم يحظ بالمنزلة الأعلى عند الجمهور هناك في أية مرحلة مضت، فإنه في هذه المرحلة بالذات قد فقد كل اعتباراته، وبارت في يديه كل أسهمه، فلم يعد يثير فضول الجمهور إطلاقاً، كما أنه لم يعد يستهوي شداة الأدب.
الرواية هي التي تستأثر بكل المكان. فالوافدون الجدد إلى الساحة الأدبية، أو الأغلبية العظمى فيهم روائيون. والإصدارات الأدبية المتتالية لا تأخذ فيها الرواية نصيب الأسد فقط، بل إنها تستأثر بكل الغنم أحياناً. وإني أدرك هذه الحقيقة لدى بعض الكتاب الذين لا يميلون ميلاً فعلياً إلى اتخاذ الرواية ميداناً لهم؛ مما جعلهم يضطرون إلى استعارة أسلوب (القص) في كل ما يريدون إيصاله إلى العامة. أسلوب (القص) أصبح جسرهم الأوثق لبلوغ هؤلاء، وهذا لا يعني أن ما يكتبون يجب أن ينضوي بالضرورة تحت مفهوم الرواية. بالعكس، فهذا ليس مهماً. المهم أنه يرد على طريقة (حكاية) سهلة خفيفة، قد لا يكون لها من (الاعتبار الأدبي ما يمثلها للظفر باسم الرواية.
هذا من الأسباب التي جعلت الرواية تقدم كثيراً من التنازلات الآن. فبعد أن كانت شيئاً رهيباً مخيفاً، يجب أن يتوفر في الذين يطمحون إليها شيء من بلزاك، أو فيكتور هوغو، أو أميل زولا، أو غيرهم؛ أصبحت الآن منتجعاً لكل من وجد في داخله إلحاحاً قاهراً لمخاطبة الناس بالوسيلة المكتوبة. وبعد أن كان لها من النواميس والطقوس ما يجعل منها نوعاً أدبياً محدداً بذوق مميز، تحولت الآن إلى منطقة حرة لك أن تقفز فيها ما شئت، وأن تصبح فيها ما شئت، وأن تعبث فيها ما شئت، المهم أن تحكي حكاية.
ولكن برغم كل شيء، أن تحكي حكاية ليس كل شيء، فالرواية ظلت تحتفظ بكامل دورها في تبليغ رسالة الكاتب وندائه.
* الرواية دائماً:
لو سألت أحد الروائيين الجدد عن سبب (اختياره) الشكل الروائي كأداة تعبير، لقال لك ببساطة: إنه (كتبها)؛ لأن بقية الأنواع الأدبية لم يفكر فيها أصلاً متخذاً أدبياً، أي أن كلمة (اختيار) الواردة في السؤال لم يكن لها مكان في ذهنه على أية حال، فهو لم (يختر) الرواية نوعاً أدبياً، وإنما كتبها تلقائياً. كان من الطبيعي أن يكتب الرواية، وليس شيئاً آخر عندما انعزل إلى نفسه ليكتب. لم يختر نوعاً أدبياً معيناً، ولم يرفض آخر، إنه كتب فقط، ثم قدم مخطوطته للناشر. والناشر هو الذي أضاف تحت سبق أن طبعوا شيئاً من أعمالهم. هذه الروايات صدرت في الفترة نفسها، ولكنها لم تؤخذ في الاعتبار هنا، فهي خارجة عن الرقم (51).
الله! الله!
منذ متى ونحن نسمع عن السندي، والسالمي، وأنور عبدالمجيد وننشر صورهم، ونزمر في آذانهم، ونفرش في طريقهم السجاد الناعم، هم وغيرهم من كتاب القصة الآخرين؟ كل هؤلاء الذين كدنا نجعل منهم (خرافة) في عالم الأدب؛ لم يمتلكوا بعد القدر الكافي من الشجاعة لطبع ما لديهم من (بضاعة) هزيلة أو غنية. كلهم يخافون مواجهة الناس، وكلهم يخافون الكساد، رضوا بما أسدلنا عليهم من مدائح، وقلائد ظفر، وأوسمة شرف؛ فقعدوا.
الجيل الذي سبقهم ضحى، وواجه مصيره بشجاعة، ومع هذا مازال هؤلاء القاعدون يستأثرون عنه بكل أسباب التكريم والتهليل والتطبيل. والتبرير الذي نسوقه لغمطنا الجيل السابق، هو أن السندي و(طقته) محدثون يكتبون بروح عصرية، وعلى آخر تقليعات القصة القصيرة في العالم.
إبراهيم الناصر طبع إنتاجه أو شيئاً منه، وعبدالله جفري طبع إنتاجه أو شيئاً منه، مع هذا لا نخجل أحياناً فنتقعر ونقول: ليتهما لم يطبعاه؛ لأنه كلاسيكي، وليس فيه شيء من تكنيك القص (الحديث) وأكثرنا -وهو يتشدق بهذه الكلمات- لا يعرف ما القص الكلاسيكي، أو القص الحديث.
البكاؤون على الأدب الراكد الجامع طالبناهم بالسكوت، إن لم يكن لديهم غير البكاء.
وهؤلاء القاعدون الذين كدنا نجعل منهم (خرافة) في عالم القصة، يجب أن نهجرهم دون حسرة، ما لم يقدموا للوسط ما يثبت حضورهم في الساحة من إنتاج مطبوع. فنشرهم قصة قصيرة واحدة في السنة، لا يعني أكثر من التلويح لمحرري الصفحات الأدبية بضرورة متابعة أخبارهم، والحديث عنهم كلما نسيهم هؤلاء المحررون، أو تشاغلوا عنهم بأسماء أخرى.
بعض الشباب في أوربا يدرك أن مفهوم الرواية على هذا المستوى، يعدُّ أغرب محاولة أدبية عرفها التاريخ. وهذه المحاولة لا تعرف أية قاعدة أو أي ضابط. والانطلاق من هذا المفهوم، هو الذي يفسر ظاهرة التهافت العجيب من الشباب حديثي العهد بالكتابة على الرواية. كلهم يريدون أن يحكوا قصة، كلهم يريدون أن يصبحوا روائيين، ومن هذه الحيثية فقط يمكن أن نقتنع ببشرى ميلاد واحد وخمسين روائياً فرنسياً في الموسم الأدبي الماضي. ويمكن -في الوقت نفسه- أن نتهيأ لاستقبال رقم آخر يفوق هذا الرقم من الروائيين الجدد في موسم أدبي قادم، فطبيعة الأمور تؤكد ذلك. أي أنه إلى جانب الانسياق التلقائي إلى الرواية دون الأنواع الأدبية الأخرى، والذي لا يزداد إلا تأججاً في كل يوم جديد؛ فإن مقارنة الإصدارات الجديدة في الموسم ما قبل الماضي مع نظيرتها في الموسم الماضي تمعن في هذا التوقع.
(في الموسم ما قبل الماضي خرج ثمانية وعشرون روائياً)
الناس في بلاد مثل فرنسا كلهم يقرؤون ويكتبون، أي أنه ليس هناك أية نسبة للأمية. وهؤلاء الناس يحتاجون إلى معاشرة كتاب، ولكن ليس أي كتاب، إنهم يتطلعون -عموماً- إلى نوع ميسر من القراءة. فالكتب الجادة الأدبية أو العلمية المتخصصة لا تهم، عنوان الكتاب هذه الكلمة: (رواية).
في أوربا هذه (التلقائية) الصرفة العميقة في اتخاذ الشكل الروائي أداة للتعبير عند أكثر شداة الأدب -إن حق لنا أن ندعوهم كذلك- تشبه إلى حد ما التلقائية الصرفة -في الشرق- لاتخاذ الشعر أول ميادين المحاولة الأدبية. فما من أديب شرقي إلا وقد رام الشعر في بداياته أو حاوله. فقط الشعر أكثر عسراً وأبعد مثالاً، ليس لأنه أسمى، ولكن لما يحيطه من قواعد وقوانين ليس لها أول ولا آخر، وهي التي ستكون من أسباب موته، حتى في الشرق يوماً ما.
وتلقائية التأليف الشعري عند الشرقي في بداياته الأدبية من أسبابها البسيطة جداً، طبيعة الذوق الأدبي العام المحيط، ونوعية التربية الذهنية ومستواها: الشعر دائماً، في البيت، في المدرسة، في المكتبة، في الراديو، وحتى في وسائل الدعاية لمعجون الأسنان، ولكازينو كيلو عشرة بجدة (!!) هذا إلى جانب نوعية المزاج، وصفة الميراث وصبغته. فالشرقي (غنائي) بطبعه، وتراثه الفكري أكثر غنائية.
في الغرب الميراث كله أو أكثره (حكاية). وقد اتخذوا طريقة القص وسيلة للتعبير منذ عصورهم السحيقة: رواية، أو مسرحية، أو سيرة ذاتية. ونحن لم نأخذ كل ذلك إلا عنهم، هذا إلى جانب أن نوعية التربية هناك تقوم أساسًا على الـ(حكاية) والذوق العام مثلها.
فالسينما مثلاً غربية المنشأ والولادة، وهي إنما جاءت وليدة لهذا الجو العام تربية وذوقاً. وطبيعة الاتجاه نحو النوع القصصي في التعبير، هي التي استمرت تغذيها، وتبعث فيها الحيوية والنشاط.
في المدرسة، في الجامعة، في البيت، في كل وسائل الإعلام والتوجيه، (الحكاية) هي كل شيء.
أكثر من نصف الكتب التي يدفع الأساتذة في المدارس والجامعات إلى قراءتها روايات. والرواية تشغل (القاعدة) كلها تقريباً في الأقسام الأدبية في هذه المدارس وتلك الجامعات.
كل شيء هناك يجعل الرواية -أو القص كوسيلة للتعبير- هي الميدان الأكثر إغراء. وقد تحدثنا سابقاً عن ميل الجمهور الكاسح إلى هذا النوع الأدبي دون غيره، و(اعتبار) الرواية الجماهيري لا يزداد إلا ارتفاعاً. ومسألة التنازلات التي قدمتها مؤخراً، لم تكن عيباً يخفض من اعتبارها الأدبي، بقدر ما كانت انفتاحاً جديداً على منطقة أوسع من القراء. وهذه التنازلات، وهذه المنطقة الجديدة من القراء ستمثل – دون أدنى ريب- البذور الأولى لأخلاق روائية جديدة، ربما كانت هي أخلاق رواية الثمانينيات من هذا القرن.
أحياناً لا تهمني (هيبة) الرواية التي خفت إذا ما فكرت هذا التفكير. الناس الآن كلهم يقرؤون، وفي حقيبة كل منهم كتاب، حتى أولئك الذين لا نعدهم مشغوفين بالقراءة، أو أن هذا النوع من النشاط لا يستحثهم، أو بكل بساطة ليس لديهم الوقت الكافي له. كلهم لا يستغنون عن الكتاب مهما كانت نزعاتهم أو نشاطاتهم الحيوية، أو مشاربهم وأذواقهم. كلهم يقرؤون بعد أن وجدوا الرواية، أو الحكاية اليسيرة، الخفيفة، التي تخاطب كل قلب، وتستهوي كثيراً من الرغبات.
الرواية هي النوع الأدبي الذي مازال يجذب الأدب إلى الطوابق السفلية والأحياء المتواضعة، حيث الناس كل الناس.
والرواية هي الصنف الوحيد الذي مازال يعزز دور الأدب، ويحفظ عليه حياته في أيدي الجمهور، كل الجمهور.
اليوم إذا كان يسألك صديقك: ما أغنيتك المفضلة؟ وما فيلمك المفضل؟ فإنه يسألك أيضاً: ما روايتك المفضلة؟ وهذا غاية ما يتمناه الأدب الذي ظل إلى عهد قريب مخنوقاً بـ(الخاصة)، يكتبه (الخاصة)، ويقرأه الخاصة فقط.
* عندنا كله أدب:
ليس من الضروري أن يصبح زاد الجمهور عندنا رواية؛ لأنه عند الغربيين كذلك، ولكن يجب أن نتفق أن شعرنا قد فقد كل أصواته التي كانت تبلغ آذان الناس، كل الناس. وهذه حقيقة يلاحظها كل راصدي الحركة الأدبية في الشرق العربي، أما كيف؟ فهذا ما قد نناقشه في موضوع مستقل بإذن الله.
الشعر اتخذ منعطفاً جديداً لن أقول عنه سيئاً أو حسناً، ولكني أقول: إنه قد أفقد هذا اللون الفني كل قاعدته الجماهيرية، حتى أصبح قُرَّاء الشعر ينحصرون في عدد معين من المعنيين بالشعر نفسه، وليس الأدب بوجه عام. أي أنه حتى بعض الأدباء المنشغلين بأنواع أدبية أخرى، أصبح الشعر لا يأخذ في اهتماماتهم إلا حيزاً ضيقاً جداً، وأحياناً يمنحونه هذا الحيز إبراء للذمة، فهم أدباء، ولا بد أن يأخذوا من كل نوع أدبي بطرف، أي أنهم يقرؤون الشعر غالباً كواجب، وليس كرغبة ذاتية محضة.
كل هذا برغم إصرار الذوق العام لدينا على بقائه شعرياً، وبرغم إصرار التربية على بقائها هي الأخرى شعرية. فالشعر مازالت له (هيبته)، والمدارس والجامعات مازالت تقدم الشعر على غيره. قد يكون ذلك لخلو الساحة من آثار جيدة في الأنواع الأدبية الأخرى، وقد يكون إصراراً ساذجاً على التقليد التربوي الذي كان لا يرى غير الشعر. المهم أن هناك انفصالاً عجيباً بين نوعية المادة الأدبية المقدمة للجمهور، ورغبات الجمهور واهتماماته الذاتية الخاصة.
هذا العناد على بقاء الذوق العام شعرياً فقط، ثم تحول الشعر نفسه عن مخاطبة الناس؛ كل هذا صرف هؤلاء، أو دفع إلى صرفهم عن القراءة. بالضرورة لا شيء أبداً يشجع على القراءة ولهذا بقيت هذه الغريزة شيئاً غير أساسي في حياة الجمهور عندنا.
كلما جاءنا شيء يروم الأدب، واكتشف أن محاولاته الشعرية لن تبلغ به ما يريد؛ أول ما يفكر فيه من الأنواع الأدبية الأخرى، هو (المقالة)، فهي أقصر الطرق لتبليغ ما يريد أن يقول. وهي ثانياً تجد الحظوة عند طبقة معينة من القراء تفوق -عدداً- طبقة قراء الشعر. وهي ثالثاً إحدى وسائل التعبير (النبيلة) التي تأتي بعد الشعر مباشرة من حيث الاعتبار الأدبي.
هذا في مجتمع مثل مجتمعنا السعودي الذي لم يدرك بعد دور الآداب (الصرفة)، كالقصة والرواية فناً ورسالة.
فالناشرون ليس لديهم النَّفَس الأدبي المطلوب للتكريس على كتابة رواية، هذا أولاً. وهم لا يرون في هذا الشكل التعبيري (المجد) الأدبي الذي يحلمون به، هذا ثانياً. إلى جانب أن كل الأمثلة العليا في ساحتهم الأدبية، هم كتاب مقالات. وهذا التبرير الأخير، هو أهون التبريرات وأكثرها سذاجة وقعوداً.
أما الجمهور – أعني القارئ وليس العام- لا يحبذ القراءة الطويلة، ثم إنه أو أكثره مازال يعتقد أن القصة (كلام فارغ)، ومجرد حكي لمضيعة الوقت.
وبين هذه الظروف مجتمعة من الصعب التنبؤ بميلاد روائيين جدد، بل إننا سنظل نعاني -حتى الاختناق- من قدوم أجيال أخرى تمعن على التمسك بـ(مصيبة) أهل الأدب الحاليين نفسها، وهي المقالة.
والقادمون -أنفسهم- سيأخذون دور الحاليين في قصر مقالاتهم الأدبية على البكاء، والنواح، والعويل؛ لأن الأدب راكد، ولأن النقد مختف، ولأن الفكر ضائع.
إنهم أيضاً سيقُضُّون مضاجع الناس بالنحيب على الأدب، وبتمزيق الجيوب على المصير النحس للفكر؛ ولهذا مرة أخرى لن يكون لنا أدب، ولن يكون لنا فكر.
لن أتمنى أن يكون مصير الجيل القادم أحسن من مصير الجيل الحالي، فالأماني لا تجدي شيئاً. ولن أطلب إلى الجيل الحالي أن يغير في سلوكه الفكري، فإنه لن يستطيع؛ لأنه – على الطريقة البدوية – (خايب رجا)، كل ما سأفعله، هو أن أصمت.. وأنتظر.
وحتى جيل القصة الذي كنا نتوخى فيهم الخلاص لأدبنا، لا تنتظروا منهم شيئاً أكثر من بعض التهويمات التي لا يفهمها غيرهم، وقصة قصيرة أو قصتين كل عام. سأضمن لكلم شيئاً واحداً آخر، هو مشاهدة (حوافرهم) الكريمة في الصفحات الأدبية مذيلة بأخبار تبشيرية عن رواياتهم ومجموعاتهم القصصية التي مضت سنوات طويلة لا تحصى وهي (تحت الطبع).
كونوا على ثقة أن محرري الصفحات الأدبية، لن يفرطوا في مثل هذه الأخبار، وهذا هو التبرير الوحيد لوجودهم أصلاً.
قبل أن أدعكم ترتاحون سأقول كلمتين:
لا بد من البحث عن الجمهور فيما نكتب، إن كنا نريد لأدبنا أن يزدهر وينتعش. ولبلوغ هذه الغاية، لابد من تغيير ذوقنا العام كله، الذي ظل شعرياً برغم كل هذه الدهور التي مرت. ولابد أيضاً من تبديل تربيتنا جذرياً، أعني تربيتنا الأدبية؛ حتى تدرك الأجيال القادمة بكل بساطة أن الأدب ليس الشعر والمقالة فقط، بل لعلها تهتدي إلى أصناف أدبية جديدة أكثر فعالية في تبليغ رسالتها.
فهد العرابي الحارثي.