اليمامة

 تاؤها

 المربوطة!

يوم كنا طلابا في الجامعة، كنت مسؤولاً عن الموسم الثقافي بالكلية، ويومها كان أهم نشاطات الموسم تنظيم محاضرات ثقافية يشترك في تقديمها مدعوون من داخل الكلية ومن خارجها.

في إحدى تلك الأمسيات المكية المشبعة بالطموح وبالتطلع، كان من بين الحضور الأستاذ الصديق أحمد محمد جمال، الذي كان لا يتوانى أبداً في تحويل المحاضرة – أية محاضرة – إلى (حوار) واع ملهم بين المحاضر والجمهور. فإن لم يكن هو نفسه المحاضر، فإنه يقوم بالتعليق على محاضرة غيره، يرد عليه، يناقشه، يفتح باب (الحوار) أمام الجمهور الذي يفضل –في أكثر الأحيان- أن يظل صامتاً.

تلك الليلة يبدو أن الأستاذ أحمد جمال لم يجد ما يعلق به على المحاضرة التي لم أعد أذكر ملقيها ولا عنوانها، فانهال على طلاب الكلية تقريعاً وتأنيبا، ولوما على “اللحن” أو الأخطاء النحوية التي يرتكبونها في كلامهم عندما يرتجلون، وفي كتاباتهم عندما يكتبون، مع أنهم أحق الناس بأن يتكلموا لغة سليمة نقية، فاختصاصهم –قبل كل شيء – هو اللغة العربية وآدابها.

في أعماقي كنت أومن بوجاهة موقف الأستاذ جمال، فكثير من طلاب الأدب واللغة العربية لا يتورعون عن ارتكاب أغلاط نحوية يندى لها جبين الحجر، ولكن “النعرة” التهبت – ظلماً وعدواناً – في رأسي إذ شعرت بأن “كرامتنا” قد مست، ولا بد من “الذود” عنها ولو بالباطل. فصعدت على “المنصة” أرغي وأزبد، والدكتور البشبيشي، أستاذي ورئيس قسم اللغة العربية يومها يبتسم في وجهي؛ لأنه كان يعرف أنني من “الملسنين” – أجاركم الله- وأنني سأشفي غليله في هذا الذي نال من “كبرياء” القسم، بل الكلية كلها.

كنت –عادة- أرتجل فيقيني الله الأخطاء، وخصوصاً الفاحشة، ولكن تلك المرة أراد الله أن يظهر باطلي للناس، وأن ينصر الحق ممثلاً في (ابن جمال)، فما أن أخذت – بحماس مسعور- في الدفاع عن طلاب الأدب واللغة، وفي الهجوم على هذا “الشاب الصالح”، كما كان يفضل أن يدعوه أبونا الأستاذ أحمد السباعي، الذي كان حاضراً هو الآخر تلك الليلة، حتى بدأت الصالة المحشورة بالناس تضج بالضحك والسخرية. لقد كنت أتخبط كالمجنون، أرفع المجرور، وأنصب المرفوع، وأصرف الممنوع من الصرف… إلخ.

ضحكت – أنا أيضاً – مع الناس، ثم مكثت أمام المايكروفون بضع دقائق دون أن “أنبس بينت شقة”، حتى استعدت “توازني”، فأخذت أتكلم بهدوء وبمنطق، فأنهيت – أخير- خطابي دون أخطاء.

في الأسبوع التالي، كنت أنا المحاضر، وكان عنوان المحاضرة: “التقليد والتجديد في الشعر العربي”. تقدمت إلى الأستاذ أحمد جمال أرجوه أن يشارك بالحضور، فالتفت إليَّ مبتسماً يقول: “ولكن على ألا تفقد أعصابك، فتقع في المحظور، فيما لو علقت على محاضرتك.

تذكرت هذه الحادثة وأنا أقرأ “ملاحظة اليمامة” عدد (384)، الصادر في 15 محرم، والتي وجدتها في ذيل “شكواي” ضدها، وضد أغلاطها المطبعية وغير المطبعية، والتي تنشرها بوحشية في كل ما أكتب لها، وبالذات بعد طباعتها على الأوفست.

كنت أقول في داخلي: ربما إنني بفعل الغضب أو “الطيش” وقعت هذه المرة أيضاً فيما وقعت فيه مع أحمد جمال.

نظرت إلى “اليمامة” جيداً، فوجدتها تضحك وهي تستدرك عليَّ “غلطتين”: الأولى التاء المربوطة، والتي جعلتها –أنا- مفتوحة في كلمة: “كلمة”، والثانية علامة التنوين في كلمة “سطور” التي كانت في موضع  “مفعول به”.

بردت أعصابي حين تبينت أن ما استدركته على اليمامة، ما كان إلا صورة من صور “دلالها” على “ذبيحها” أخيكم المسكين كاتب هذه السطور. فهي تعلم تماماً أن جهلي لا يصل إلى درجة عدم التفريق بين التاء المربوطة والتاء المفتوحة، خاصة وأن الكلمة نفسها التي وقع فيها الخطأ، قد ترددت في الموضوع نفسه – قبل الخطأ وبعده- بتاء مربوطة. وعلى هذا ما كان ورودها بتاء مفتوحة لمرة واحدة –فقط – سوى “سبق قلم”، وهذه مسألة يعرفها كل الكتاب. و”مقدرتي” اللغوية كما زكتها اليمامة – جزاها الله خيراً – تؤهلني برغم تواضعها لكتابة “كلمة” بتاء مربوطة، ولوضع الـ”ألف” بعد “سطور”، دلالة على تنوين الفتح. ولست في حاجة إلى التأكيد على هذه النقطة، فاليمامة نفسها تعلم أنني أعرف “المفعول به” –على الأقل- وإلا لما قبلتني كاتباً، وأحد أعضاء هيئة التحرير فيها.

هناك غلطة حقيقية وفاحشة ومزرية ومخجلة وقعت -أنا- فيها فعلاً. كان أجدى باليمامة أن تتنبه لها، وأن تضربني على أصابعي جزاء اقترافها، وهي أنني قلت  مُخطِّئاً اليمامة: إن كلمة “نصيب” بعد إبدال الجار والمجرور “لنا” بالظرف المضاف “لدى” في الجملة: “أن لدينا من كل ثقافة نصيباً” يجب ألا تظل منصوبة؛ لأنها لم تعد اسم “إن” المؤخر. والصحيح هو أنها يجب أن تظل منصوبة؛ لأنها –حتى بعد عملية الإبدال هذه- ما زالت اسماً مؤخراً لـ “إن”. فـ “لدى” ظرف مبني، ولا يجوز الابتداء به كالجار والمجرور، أي لا يجوز أن يكون “مبتدأ”، أو اسماً لـ”إن” وأخواتها، أو “كان” وأخواتها إلخ.

هذه غلطة حقيقية أسفت لها كثيراً، كان أحرى باليمامة أن تتنبه لها، بدل أن “تتجشم” مؤونة وضع الدائرة حول كلمة:”كلمة”؛ لأن”سبق القلم” جعلني أكتبها – ولمرة واحدة فقط – بتاء مفتوحة.

ألم أقل لكم: إن “اليمامة” عشيقة ماكرة تعمل كل شيء من أجل إذكاء جذوة الغضب في قلب “عشيقها”، لتتفرج عليه – ضاحكة- من ثقب الباب وهو “يتنرفز” داخل الغرفة، ويصيح، ويمزق ثيابه كالمجنون. ككل الحسان إنها لا تكرهه، ولكنها تتسلى بمنظره المزري وهو يرغى ويزبد، ويذرع الغرفة جيئة وذهاباً كمؤشر الساعة الحائطية.

شيء آخر:

(اليمامة) عندما شاءت – للمرة الأولى ربما – خرج موضوع (قتلتني اليمامة) خالياً من الأخطاء (المطبعية)، خلو الثوب الأبيض من السواد. هذا يعني أن الذي ينقصها فقط شيء من الاهتمام، شيء من العناية، شيء من الانتباه.

شيء أخير:

هل ستسلم هذه السطور – بدورها – من مخالب إبليس؟

وقت البيانات لتقنية المعلومات شركة برمجة في الرياض www.datattime4it.com الحلول الواقعية شركة برمجة في الرياض www.rs4it.sa