مجلة الأسواق العدد 54 الموافق: مايو 1999م
إمبراطور العولمة
يعتبر الجانب الاقتصادي أصل العولمة من الناحية التاريخية، فعندما بدأت العولمة مشوارها الطويل كان أول طموح لها تحقيق اندماج أسواق العالم في حقول التجارة والاستثمارات المباشرة، وانتقال الأموال والقوى العاملة.
ويرى بعض الراصدين لنمو العولمة أنه ليس من قبيل الصدفة ألا يكون المفهوم نفسه من اختراع المفكرين أو الباحثين.. فشركة “سوني” اليابانية هي التي اخترعته في حملة إعلامية أطلقتها في مطلع الثمانينات، عندما صرح مدير الشركة أن منتجات شركته والشعرات الإعلامية التي تصحبها ليست ملزمة بأن تتكيف مع مختلف الثقافات، القومية والمحلية، لأنها تحمل – هي نفسها – ثقافة كونية متعولمة، وكأن “سوني” اليابانية تؤكد اكتساح “المشترك العام” في صناعاتها، ولتكون الصناعة أول المبشرين بالعولمة عندما يكون معناها التبادل أو الانفتاح على إنجازات الآخر.
وهذا يعني، بالإضافة إلى أثر الصناعات الكبرى في تفتيت الحدود الجغرافية، والتهوين من شأنها، أن تلك الصناعات تهيمن على مستوى من احتياجات وأذواق الناس وخيراتهم على هذا الكوكب، وتضيق الفرص أمام أي مبادرات محلية أو قومية للتصنيع المنافس، فشيوعها هو انتشار لثقافات أخرى غير الثقافة القومية..
ويرى مثقفون آخرون – على ذمة جورج طرابيشي – أن الوجه الآخر لهذه العملة هو “أقصده العالم” أي اختزال العالم إلى بعده الاقتصادي، فالسوق هي “الملكة” وهي سيدة كل شيء.
وتأتي السوق المالية – المفتوحة على مصراعيها – عن طريق تبادل المعلومات في المقام الأول، وإجراء الصفقات، خاصة وأن إجمالي ما يطرح في البورصات العالمية في اليوم الواحد يعادل 1.500 بليون دولار، أي ما يوازي ضعف الاحتياطي النقدي العالمي، أو ما يماثل جملة الناتج القومي لدولة كبرى، مثل فرنسا، ورابع قوة اقتصادية في العالم. وفي عام 1993 بلغ إجمالي الحركة المالية في بورصات العالم 150 ألف بليون دولار، أي ما يعادل مائة ضعف الحركة التجارة العالمية سنوياً.
أما الشركات المتعددة الجنسيات، فهي الإمبراطوريات العظمى لعصر العولمة، فأقل من ألف شركة تتحكم في 76% من المنتجات العالمية. فخلال عام 1995م، وصل إجمالي حجم الأعمال لشركة جنرال موترز إلى 132 بليون دولار أي ما يعادل الناتج القومي للدنمارك، أو أندونيسيا، كما وصل حجم أعمال شركة فورد إلى 100 بليون دولار، وهذا الرقم يتجاوز الناتج القومي الإجمالي لتركيا.
ومن مظاهر العولمة الاقتصادية، أيضاً، ما تبشر به اتفاقية التجارة العالمية، وهي سياسة حرية رأس المال، وتحرير الأسواق والتجارة العالمية، وتدفقات السلع والمنتجات، والأموال والأوراق المصرفية، والمواد الإعلامية والإعلانية والدعائية.. أي فتح الأبواب أمام المستثمرين، من مختلف أنحاء العالم للاستثمار في أي دولة دون أي قيود، مما يزيد من إذابة الحدود ويسهل الدخول إلى أسواق جديدة، للاستثمار فيها والتحكم في مصائرها. والشركات العملاقة متعددة الجنسيات هي “اللاعب الرئيسي” من وراء اتفاقية التجارة العالمية.
وفي حمى هذه العولمة، وفقاً لتقديرات تقرير التنمية الشاملة لعام 1992م، بلغت خسائر البلدان النامية، نتيجة لعدم المساواة في الحصول على الفرص في مجالات التجارة والعمل وآمال ما يزيد عن 500 بليون دولار سنوياً، أي ما يعادل عشرة أمثال ما تحصل عليه سنوياً كمساعدة أجنبية.
ويؤكد رمزي زكي أن أحد المعالم المميزة لواقع الاقتصاد العالمي عدم التكافؤ، والتفاوت في القوة والموقع، ومدى تأثير الأطراف المشاركة.. وربما يفسر لنا ذلك، لماذا تتطور الكوكبية الآن إلى الإقليمية.. لماذا تبرز التكتلات الاقتصادية الكبرى، التي تنمو نحو تكوين قواعد التكامل الإنتاجي والتكنولوجي والتمويلي، حتى يمكن تنظيم لعبة الصراع التنافسي على الصعيد العالمي، وهي تمثل مصالح النخب، أو الأقليات القوية.
ويشار إلى مسألة أخرى مهمة، وهي أن قوة العمل البشري مستبعدة تماماً من حرية الحركة والتنافس فالكوكبية حصرت مضمونها في منق الرأسمالية المكوكبة، على أنها مجرد الحراك الحر وغير المقيد للسلع ولرؤوس الأموال.
أما قوة العمل فممنوع عليها ذلك! فإذا كان مسموح لرأس المال وللسلع التي تقتحم الحدود والأسواق دون عقبات، فإن العمل غير مسموح له بذلك.. بل إن البلدان الصناعية المتقدمة قد عمدت في السنوات الأخيرة إلى استفحال أزمة البطالة فيها، وتغيير قوانين الهجرة والعمل والإقامة للأجانب، وأصبحت تعارض الآن استقبال المهاجرين، وتسعى إلى طردهم كلما أمكن ذلك.
ولكن فيما يخصنا نحن كعرب، نجد أن للتصورات التي كوناها عن العولمة هي تصورات خاطئة، إذ يظن الكثيرون أن العولمة ستحمل معها سلعاً ومنتجات استهلاكية وترفيهية، واستثمارات عديدة، وستكون إيجابية لاندماج الأسواق المالية والبورصات العربية في البورصات العالمية، في حين أن ما يحدث هو تكريس لتبعية تقنية ومالية واقتصادية وتجارية، مع القضاء على أي محاولة لاستثمار التناقضات والخلافات بين الدول الكبرى والغربية، وبالتالي تنامي ضعف الدرة على إصدار وصناعة القارات الوطنية والقومية.