
اليمامة العدد: 442 2281 ربيع أول 1397هـ 18 مارس 1977م |
عندما يكون التجديد في الآداب الأخرى سبباً في فتح روافد جديدة، تظل تذكي الحركة الحيوية في الهيكل الأدبي كله، فإنه في الأدب العربي المعاصر يكون دائماً السبب في تدمير كل ما قبله من مناطق فنية مزدهرة؛ لأن أدباءنا مأخوذون أبداً بالتجديد، وهذا ليس عيباً. لكنهم يفهمونه على أنه انتصار يجب أن يقوم على أنقاض ما قبله من تأسيسات ثبتها السابقون، حتى أن الذين يظهرون ولاءهم لـ (التقاليد) كذوق أو مشرب شخصي؛ يلاقون عنتاً من هؤلاء الذين يعتقدون أن المبرر الوحيد لبقائهم في الساحة، هو ملاحقة الجديد أيا كان. ويعتقدون أنه للاستئثار بالواجهة، لابد أن يرددوا آخر الصيحات الفنية؛ حتى أن بعضهم -لكل هذا- اعتنق بعض الحركات الجديدة دون أن يستوعبها، وأحياناً دون أن يفهمها، وغالباً دون أن يكون شديد الإيمان بها، أي أنها لا تمثل له بحال أية قناعة فكرية أو فنية.
الجيل الحاضر كان يجهل أو يتجاهل أن القراء تختلف أذواقهم ومشاربهم. ففيهم من يحبذ أن يأكل بواسطة، وفيهم من يحبذ أن يأكل بيده مباشرة، وفيهم من يخاف أن يمشي وحيداً في مجاهل لا يعرفها، وفيهم من يفضل الوحدة ويعشق المغامرة، وفيهم من يريد أن يغني، وفيهم من يريد أن يسمع حكاية، وفيهم من يحب التخمين و(التحزير)، وفيهم من يحب أن يضع أصبعه مباشرة على الهدف، وفيهم من يعزف عن أن تقول له كل شيء، وفيهم يطالبك بالتفصيل والشرح. ولأن الجيل الحاضر تغافل عن هذه الحقيقة، فأصبح يصدر عما يشاء هو، دون النظر إلى ما يطمح إليه الناس؛ فقد انحسرت مهمة الأدب، حتى نسي الناس الأدب، أو حتى كرهوه.
هذا الجيل نسي أن الأدب إنما يكتب للناس، للعامة، وهو بالنسبة لهم غذاء، وتسلية، وتربية في آن واحد. هذا الجيل لم يعد يدرك أن الأدب ليس للنقاد والأدباء، وإنما هو لسائق التاكسي، وللموظف، وللعامل، وللتاجر. وهو بالنسبة لكل هؤلاء، يجب أن يظل حجة ضرورية، كالراديو، والتليفزيون، والسينما وغيرها.
لا تفهموا – كما يفهم بعضهم أحياناً -أنني أريد من الكاتب الأديب أن يكتب عن الحفريات والمستنقعات والبيارات، فهذه مهمات لها ضرورتها، وقد كفاه مؤونتها الكاتب الصحفي. كل ما أريده، هو أن نكتب أدباً ليس لبعضنا بعضا، ولكن لكل الناس. إن قيام الأدباء بهذه المؤامرة الخطيرة ضد الأدب، أعني حصره فيهم -هم- هو الذي أهانه في عيون الناس، وهو الذي أضعفه وأفقده رسالته التبشيرية والنضالية والتربوية. أود أن أسأل: من يقرأ الأدب اليوم؟ أو خذوا هذا السؤال الأكثر (فضيحة): من يقرأ صفحات الأدب عندنا؟ من يقرأ صفحات نصر الله، وسباعي عثمان، والجفري، والقاضي وغيرهم؟ الذين يقرؤونها هم الكتاب ومحررو هذه الصفحات أنفسهم فقط لا غير! لا تقولوا: إن السبب هو تحول عقول الناس عن الثقافة؛ بسبب أنياب التكالب المادي التي تنهشهم في كل حين، وفي كل مكان. لا تقولوا ذلك؛ لأن التكالب المادي في الغرب أكثر استفحالاً، وأشد عنفواناً، ومع هذا فمازال الأدب هناك بخير، ومازال الناس يتلقفونه بأذرعة مفتوحة صباح مساء؛ لأن الثقافة لم تكن في يوم ما النقيض للتسابق المادي، أو المفسد لرهان التكنولوجيا والدولار، ولكن قولوا: إن أدباءنا هم الذين أفسدوا الأدب، وضربوه، وسجنوه، وخنقوه؛ حتى فقد الناس ثقتهم فيه، فكر هوه، ولووا وجوههم عنه.
* كيف حال الشعر؟!
الشعر العربي يعد أكثر الأنواع الأدبية خسراناً، بعد أن أصيب الشعراء هم الآخرون بحمى الموضة، وأقول: الموضى؛ لأنني أتحاشى عامدا استعمال كلمة (التجديد)، وغرضي هو أن أفسد على المعنيين سحر هذه الكلمة الخطيرة التي يستعملها بعضهم أحياناً، حتى لمجرد تحبيره قصيدته على ورق أزرق بدل الأبيض مثلاً. ثم إن أنسياقهم -أو أكثرهم- إلى منعطف الشعر العربي الجديد، لم يكن مرده الرغبة في التجديد فقط، ولكن لأن الأسماء الكبيرة في سماء هذا الفن في الوطن العربي تنحو هذا المنحى، أي أن (الموضة)، هي أن يكتبوا كما يكتب سعدي يوسف، أو خليل حاوي، أو البياتي، إلى درجة أن تأكد لدى كل هؤلاء أن لا شعر غير شعر هؤلاء، ولا فن غير فن هؤلاء. فكلما جاء ميلاد جديد لشاعر جديد، ليس لنا أن ننتظر أن يكون شيئاً آخر غير سعدي يوسف وأقرانه. وهو إن غامر فحاول أن يكون شيئاً آخر، حكم عليه مراقبو الحركة بالإعدام أو بالنفي من مملكة الشعر.
ليس عندي أي اعتراض على نوعية شعر هؤلاء المغرقين في الغموض والإبهام والألعاب السحرية، ففي أعمال بعضهم نجد الإيحاء والرمز، وهذا فن لا أنكره، بل أدعم وجوده كمتذوق فقط. الذي أنكره هو أن يتحول هذا الأسلوب إلى (موضة) يرومها كل الشعراء، وأن يصبح هذا النوع، هو المصدر الوحيد (للتعقيد) الشعري الحديث، وأن يحجب هذا المسار النور عن أي مسار شعري آخر.
أنا لا أتحدث هنا عن الموجة الحديثة من حيث احترامها لعمود الشعر أو عدمه، فهذا لا يهمني. الذي يهمني هو نوعية لهجتها التي تتجه بها إلى الناس.
تصوروا الآن بعد أن أصبح أسلوب الإيحاء – أو التعمية أحياناً – هو الأسلوب السائد لدى أكثر من يرمي إلى كتابة الشعر، مَنْ سيفهم هذه النوعية من الشعر؟!
فكان عند حسن ظن أقرانه المفتونين بالموضات الأدبية، وأن هؤلاء شديدو الشبه بالمرأة الشرقية عندما يتعاظم إصرارها من يوم لآخر على القيام بأشنع عمليات (الغش)، يوم تمتحن في جمالها. (الغش) من المرأة الغربية،فتقوم بمحاولة جدية مثابرة لاقتباس كل ما يمكن أن تفكر فيه هذه الأخيرة من ابتداعات، حتى ولو بدت الشرقية في بعض هذه الابتداعات كالقرد أو كالشيطان. كل الذي يهم، هو أن تثبت لقريناتها بأنها مجددة.
لا تفهموا أنني ضد التجديد في الأدب، أو في أي شيء من أشياء الحياة، ولكني أريد أن أدخل إلى مسألة مهمة – في نظري – قتلت الأدب العربي عموماً، وبالذات الشعر، كأهم خزائننا الأدبية منذ عصورنا السحيقة.
أنت عندما تكتب اليوم بطريقة واضحة، أي عندما تضع أمامك هذا التحدي: (لا بد أن يفهمني كل الناس). فأنت في نظر جيل الأدب الأخير مباشر وسطحي وساذج؛ لأن أفكارك ستكون في متناول الجميع، إذاً فأنت من العامة، ومثلك الكثير ممن يستطيعون تفريغ أمتعتهم بهذه الصورة المتدنية، ولكن لكي تكون عميقاً، بعيد الغور، صعب المتناول؛ فلا بد ألا يفهمك أحد البتة. كلما أمعنت في التعمية واللف والدوران، حتى وإن لم يكن لديك شيء محدد تريد قوله، فأنت فيلسوف ومفكر، ومتميز عن العامة والدهماء.
ولهذا أخذ كل جيل الكتاب المحدثين -أو أكثرهم- لا يتورعون عن هذر فخر غالباً لا يفهمونه. هم أنفسهم يشردون أحياناً من سياط إلحاح الناس بطلب التفسير فيلجأون – في وهن – إلى مدارس الإيحاء الأدبي، كالرمزية والسوريالية وغيرهما، وهم لا يعرفون عنهما إلا مثل ما تعرفه (الوالدة) -عفا الله عنها- عن أندريه بروتون، وأربال وغيرهما.
ولنفرض أن بينهم من يدرك تمام الإدراك ما يريد أن يقول، ومن يعرف تمام المعرفة أنه يعتنق اتجاها أدبيا معينا، فينطلق في إصداراته الفكرية منه، ولكن هل هذا يعني أن الآخرين – كلهم – يجب أن يتخذوا النهج نفسه عن علم أو عن غير علم؟
في القصة يعمد بعض النقاد إلى تحقيق القصص التي تأتي حكايتها واضحة لكل الناس؛ لأنه يعد أن القصة لابد أن تكون حديثة عصرية، ولكي تكون حديثة عصرية، لابد أن تكون رمزية أو عبارة عن (فلاشات) خاطفة ضبابية. وخيال القارئ هو الذي يفترض في أكثر الأحيان التسلسل القصصي، أو بدايات ونهايات الأحداث، أو أي شيء آخر مما لم أذكره هنا.
هناك أنواع قصصية لها هذه الروح، ولا نستطيع التنقيص من قيمتها، ولكن الذي يهم هنا، هو أنها تأكدت في أذهان النقاد والكتاب، حتى أضحت هي الدليل الأكبر على معاصرة الكاتب، وهي ورقة المرور الوحيدة التي يعبر بها إلى مصاف الأدباء المعتبرين. وعلى هذا الأساس جاء هجران النشء الجديد للقصة الاجتماعية، والبوليسية، والسياسية مثلاً. والتي تحدد طبيعة كل منها نوعية الأسلوب الذي يجب أن تتخذه إلى أذهان الناس، ولهذا أيضاً لم يحاول أي واحد من النشء الجديد أن يجرب قصة المغامرة، أو القصة العلمية المستقبلية، أو غيرهما من أنواع القصة الجديدة، التي تعتمد أساساً على (الخلق) والإبداع، والتي مازال أدبنا يفتقر إليها بصورة فردية، وبالذات أدبنا السعودي.
إن النشء الجديد هجر الأنواع القصصية القديمة؛ لأنه يصر على أن يكون مجدداً، ولكي ينال هذا الوسام النادر؛ لابد ألا يتعرض من قريب أو من بعيد لأنواع أدبية مضى على وجودها سنوات أو قرون.
والنشء الجديد لم يجرب أنواعاً أخرى من القصص غير قصة الفلاش؛ لأن هذا النوع هو الموضة الآن، ولابد أن يرضي أذواق نقاده، ولا بد أيضاً أن يجعل زملاءه الذين يقفون في الواجهة غير مترددين في ضمه باعتزاز إليهم.
ولهذا السبب وجد القارئ العربي – وبالذات السعودي – أنه أمام (طبق) أدبي واحد، أو قولوا: جيل أدبي صاحب هوية أسلوبية واحدة: إما مقالة ضبابية مراهقة لا يفهم منها شيئاً، أو قصة فلاشية لا ترضي – حتى – كل الأذواق. وبدلاً من أن تكون دعوى التجديد هذه مصدر ثراء للأدب، كانت نكالاً عليه، فانتكس وضعف، وفقد دوره.
القارئ تعب وهو يلاحق الجيل الحاضر، ويتودد إليه بأن يمنحه نظرة عطف أو اهتماماً معيناً. والجيل الحاضر كان لا يهمه القارئ ولا رغباته وأذواقه، بقدر ما كان يهمه أن يحصل على شهادة حسن سيرة وسلوك من نقاد الأدب محدودي النظرة الذين خدعونا بدعوى التجديد. وبقدر ما كان يهمه أيضاً أن يهلل له أقرانه في هذا الميدان المقصور على عشاق (الموضة للموضة).
سأجيب:
سيفهمه كتابه، وسيفهمه بعض المحظوظين ذوي القدرة على استيعاب الصور، الذين سيختلفون بالتأكيد في طريقة الإحساس بهذه الصور. وهذا حق لا ننكره على هذا الأسلوب الشعري، ولكن المصيبة هي أن السواد الأعظم من الناس لن يتطوعوا بقراءة سطور طويلة عريضة، ستظل في تصورهم البسيط كالطلاسم أو كالأحاجي غير مفهومة، ولا يمكن أن تكون مفهومة.
صحيح أنه ليس من مهمة الفنان أن يضع في (مناخير) كل إنسان معاني أعماله وغاياتها، ولكن -في الوقت نفسه- ليس من المعقول أن يصبح كل شعرائنا إيحائيين، فينعدم في أيدي الناس الشعر الطري السهل الميسور.
فالشعر هو الآخر إنما يكتب للعموم، للناس، وهذا عكس الواقع العربي الآن. فالشعراء لا يكتبون إلا لأنفسهم، وهم هنا أيضاً يفسدون على الشعر دوره ورسالته.
الشعر العربي بالذات، هو روح أمة وأنفاس شعب، ولهذا لابد أن يظل -أو جزءًا منه- بين أيدي الناس.
النوع الشعري الوحيد الذي بقي في مأمن من الغموض ودعوى (العمق)، هو شعر الغزل، فبقي الناس متعلقين بأهدابه إلى اليوم. وأعتقد أن الذي وقاه من هذه الموجة هو طبيعته. وتخيل أن يخطب شاعر عشيقته بألغاز لا تفهمها. وكل محاولة غزلية اتخذت هذا الأسلوب تحولت -بالضرورة- من قصيدة غزل إلى قصيدة فكاهية، تبعث على الضحك والسخرية. قد يطرح موضوع جنسي بطريقة إيحائية، وهذا شيء آخر ليس من الغزل في شيء.
الشعراء الذين أبقوا على رغبتهم في مخاطبة الناس -وهم قلة- ظلوا بالنسبة للجيل الجديد أهم حصون الكلاسيكية والمباشرة والقعود.
خسران الشعر لدينا يتبين في فقدانه قاعدته الجماهيرية التي وجد أصلاً من أجلها، وإذا كانت هذه الجملة: (الشعر ديوان العرب) تثير ضحك بعض المأخوذين بالموضة الآن، فليعلموا أنها أصدق جملة قيلت عن هذا الفن الذي عُرفت هذه الأمة به، يوم كان فيها الشاعر هو الأمة. اليوم لم يعد للشعر أي نفوذ على هذه الأمة؛ لأنها لا تفهمه، ولأنه لا يُكتب لها.
اليوم بعض شعراء الجيل يأخذ بين يديه قضايا من قضايا الأمة، ولكنه يظل يخنقها داخل (هيئة) أسلوبية لن تبلغ غايتها.
صحيح أن الشاعر ليس مرشداً، ولا واعظاً، ولا خطيباً، ولا محللاً سياسياً، ولكنه متحدث عن إحساس أو عن قضية، ومن حق الجمهور أن يشاركه هذا الإحساس، وأن يتجشم معه مسؤولية هذه القضية.
الناس في حاجة إلى شعر. والمنعطف الذي اتخذه الشعر العربي في السنوات الأخيرة لن يلبي هذا الاحتياج. وهذا المنعطف لا ندينه كفنٍّ، ولكنا ندينه كـ(هامة)، أو كسبع ضارٍ التهم كل تطلعات الشعراء، وبالتالي تطلعات الناس. ندينه كوحش مفترس ابتلع اهتمامات الشعراء، وألغى أدوارهم الجماهيرية.
لقد انتهى الناس بأن كرهوا الشعر، فولوا وجوههم عنه هو أيضاً.
* عند الآخرين:
هنا أعود فُأذكَّر ببداية هذا الموضوع: عندما يكون التجديد عند غيرنا رافد حركة وحيوية، يضاف إلى ما قبله من روافد ثابتة؛ فهو عندنا سبب من أسباب القضاء على ما قبله، أو سبب من أسباب هجر هذا الـ(ما قبل).
كل المجددين في الغرب تقابل خطواتهم بالاحترام والإكبار، حتى وإن ناقضت الذوق الفني العام في قليل أو كثير. وهؤلاء المجددون يظلون على القدر نفسه من الاحترام والإكبار لما هو موجود سلفاً في الساحة. قد يختلف الفريقان في نوعية حماسهما، كل لما اتخذ من سبيل، ولكن كل النشاطات الأدبية الجديدة أو المبينة؛ تظل على حظها المكتوب لها من البقاء والاستمرار. وورقة المرور إلى الواجهة لا تكفي أبداً أن يوقعها النقاد، بل لا بد من توقيعات القراء أو الجمهور. وهؤلاء النقاد لا يقبلون أديباً فقط لأنه مجدد، ولا يرفضون آخر؛ لأنه كلاسيكي أو قديم. والقراء أهم غاياتهم أن يجدوا أمامهم كل شيء، وهم يختارون من هذا الـ (كل شيء) ما يناسب أذواقهم ومشاربهم واتجاهاتهم؛ لهذا ظلت السوق الأدبية هناك سوقاً مزدهرة مليئة بالبضائع، ومحشورة بالزبائن أيضاً. وإذا كان السؤال عندنا هو: ماذا نقرأ؟ فهو هناك كم نقرأ؟ وكيف؟ ومن أين نبدأ؟
لكل هذا -من جانب آخر- يمكن أن نبيح للفكر الغربي أن يتخلله بعض (العبث). فهو فكر مترف كأي إنسان متخم يبيح لنفسه أن يتخذ من مائدة طعامه-أحياناً- ميداناً لألعاب طفولية غير موقرة. هذا إلى جانب ما يمكن أن تلعبه تعقيدات حضارته الراهنة وحياته اليومية من أدوار.
فوجود مجموعة كبيرة من الإيحائيين لم يلغ وجود أكثر من فريق آخر، وكلها تقدم ألواناً أخرى لها دورها ومسؤوليتها. ووجود هذه المجموعة الإيحائية لا يستبد بكل مجالات النشاطات الأدبية الأخرى، بل يمثل ذوقاً فنياً كبقية الأذواق، ويجعلون منه وسيلة تعبيرية لا تشكل أية خطورة على حظ الوسائل التعبيرية الأخرى.
إنهم هناك يحترمون القارئ، وأحياناً يقدمونه على الناقد، أو أن هذين يستويان أحياناً في تحديد (مصير) أية حركة فنية أو أدبية. ففي أوائل هذا القرن، عندما جاء أندريه بروتون ورفاقه يعلنون نزوعهم السوريالي أو ما فوق الواقعي؛ لاقوا عنتا شديداً من النقد، ولكن هذا لم يكن السبب الوحيد في خنق هذه الحركة فقد كان هناك أيضاً رفض الجمهور لها؛ لأنه لم يكن بَعدُ مهيئاً لاستيعابها وفهمها. اليوم النقد يسمع بكل نشاطات السورياليين ويصفق لها، ولكن هذه النشاطات تظل على خط يسير من الأهمية؛ لأنها لم تظفر بعد برضا الناس الكامل.
وشهرة السوريالية في البداية، إنما جاءت لأنها عُدَّت (فضيحة) فنية كبرى؛ ولأنها كانت تمثل مظهراً من مظاهر الجنون.
دور القارئ في تحديد (مصير) أية حركة أدبية له وجوه أخرى، منها: أن النقد نفسه يستمد أكثر أسس التقويم فيه من طبيعة ذوق هذا القارئ العام، وأحياناً ربما قدم النقد تنازلات معينة أمام عقوق بعض الأعمال أو الحركات التي يظهر فيها عدد من التجاوزات الفنية. يقدم طواعية هذه التنازلات، مادام أن هذه الأعمال أو هذه الحركات تحقق انتصاراً جيداً في عدد المقبلين عليها، وسأذهب إلى أبعد من ذلك فأقول: إن بعض الكتاب يتمنى -وهذا طبيعي- أن يستقبل النقاد نتاجه بترحاب، ولكن لو حدث العكس تماماً، فإن ذلك لا يهمه في شيء، مادام أنه يضمن تعضيد القارئ، أي أن هذا الأخير في بعض الحالات يتقدم على النقد والنقاد.
من هذا كله ننتهي إلى هذه الحقيقة: الأدب هناك للناس، بينما الأدب عندنا للأدباء أنفسهم! وهذا أهم ما يكتم أنفاس هذا الفن المسكين، ولو حاولنا أن نجعله-في بلادنا- للناس أيضاً، لفهمنا معنى (التجديد) فيه، ولاتخذنا كثيراً من الاحتياطات ومواقف الحذر في تنفيذ هذه العملية الخطيرة.
* السعودة:
بعض كتابنا تخرج من فمه روائح كريهة ومنتنة عندما يتحدث عن هذه (السعودة)، مثل سعودة الصحافة.
مسألة (الشوفانية) مسألة عويصة، حتى عند بعض كتابنا المعتبرين، وهم لن يقووا على التخلص منها؛ لأنها أصبحت فيهم كالمرض المستعصي. ولكن هؤلاء الذين يتحدثون عن (السعودة) بنكهة نسائية غيورة ساذجة؛ ليسوا شوفانيين غير مدركين فحسب، ولكن فوق ذلك أغبياء وصبياناً. كانوا يتخذون مشاركة القدرات العربية معهم في البناء على أنها مزاحمة ومنافسة لهم، وهم قبل ذلك وبعده ينسون مدى إفادتنا من هذه القدرات قبل أن يصبح لنا ريش وأجنحة.
بعض هؤلاء ذوي الروائح الكريهة مازال يعتقد أن الإخوة الذين جاؤوا لمساعدتنا في حمل مسؤولية البناء، إنما جاؤوا ليسرقوا (ريالاتنا)، إنه يتعامى حتى عن مجرد حق هؤلاء في نيل أجرهم على ما يقدمون من جهد وعرق.
وبعض هؤلاء ذوي الروائح الكريهة أيضاً، يفسر خطوة الحكومة الحكيمة لسعودة التجارة مثلًا من منطلقه النسائي هو. إنه لا يدرك الأسباب الاقتصادية الأساسية التي كانت وراء اتخاذ هذا القرار، وينسى أن الحكومة الرشيدة لم تكن لتحظر هذا الميدان على الإخوة الضيوف، لولا أنها بدأت تحس أن الأيدي العاملة الأجنبية أخذت تتنصل من الأغراض الأصلية التي وفدت إلى البلاد من أجلها، لتنتقل إلى ميدان التجارة، حتى أصبحت ميادين العمل خالية من عمالها؛ مما أدى إلى تضخم مشكلة حاجتنا الماسة، التي ستظل ملحة للأيدي العاملة.
إنني أتمنى أن نحقق اكتفاءنا الذاتي في كل المجالات، ولكن هذا لم يعد بعد ممكناً.
وأتمنى عندما نحقق هذا الاكتفاء، ألا نتوقف عن تقديم البراهين لكل الإخوة الأغراب الذين شاركونا وساعدونا في البناء، على أننا قوم نعترف بالجميل ونشكر، ولسنا قوماً لؤماء، كلما حققنا تقدما في ميدان ما، هللنا وكبرنا، ثم احتسبناه انتصاراً عليهم ندحرهم به، وكأنهم (مستعمرون) وليسوا أشقاء.
وسعودة الصحافة هذه ماذا يعني؟!
هل تعني حظر جرائدنا على الأقلام العربية التي لابد أن تستوي معنا في حق التعبير؟!
إن كانت كذلك، فهي أغبى وأوقح دعوة سمعتها.
هل تعني إخلاء أجهزة التحرير من الإخوة العرب الذين شاركونا المسيرة الصحفية منذ أمد طويل أو قريب؟!
إن كانت كذلك، فما الجريدة السعودية التي تستطيع أن تتبجح، فتؤكد استغناءها التام عن أية مشاركة غير سعودية؟!
الجواب سأجعله أمانة في أعناق هؤلاء الداعين إلى السعودة.
د. فهد العرابي الحارثي.